تحوي أدراج وزارة العمل في قطاع غزة أكثر من 800 شكوى حول استغلال شباب من قبل بعض المؤسسات المحلية سواء بذريعة التدريب أو التطوع أو حتى العمل بأجر زهيد، وذلك وفق إحصائية خاصة بالعام الماضي فحسب، حيث يقع كثير من الشباب فريسة للمؤسسات تحت وقع الحاجة إلى الفرار من البطالة المرهقة وتلبية مستلزمات الحياة المتزايدة، رانية أبصارهم إلى تغيير الظروف للأحسن، حيث تمر الشهور والسنوات والحال ذاته، فلا حقوق واضحة، بل استغلال متزايد!.
في هذا التحقيق نكشف كواليس استغلال الشباب، لاسيما المتطوعين منهم-لا مسمى واضح للتطوع في القانون- فالبعض يطلق عليهم متطوعين، والبعض يعتبرهم "متدربين"!، فما وضعهم؟!، وكيف يمكن حمايتهم ؟!.
نصف راتب
في بحثنا عن خريجين تم استغلالهم لم تجد "الرسالة" صعوبة في الوصول إلى كثير من الخبايا، فمعظم الشباب كثير من المؤسسات قائمة أصلاً على استغلالهم!.
"ريم دويك" حدثتنا عن تجربتها في العمل مجاناً في إحدى المؤسسات، قائلة:" عملت في مؤسسة لرعاية كبار السن لمدة ثلاث سنوات، وفي الفترة ما بعد عدوان 2014 عدت للعمل كمتطوعة في البحث الميداني بمبلغ رمزي، وذلك بذريعة تدريبي على فهم أصول هذه المهنة تمهيدًا لتثبيتي".
وتضيف "استمريت في التطوع حتى بعد أن استقال موظف، ولم أتقاضى أجرًا، وأثناء فترة ولادتي تم تعيين موظف بديل، فلم أعرف إلى أين أتوجه، وما إذا كان القانون منصف أم لا، وهل هناك مؤسسات يمكن أن تأخذ هذا الأمر بعين الاعتبار؟!".
محفوظ: برنامج التشغيل المؤقت لتنمية القدرات وليس للتشغيل
ويتمادى الأمر لأكثر من تجاهل موظف وتوظيف آخر، ويصل إلى استغلال ضعف الشباب ونهب نصف الراتب الموقع عليه في العقد، حيث تقول إحداهن عن تجربتها في هذا الصدد: "بداية التخرج كنت بحاجة للعمل، وخبرتي بالحياة قليلة وبالعمل أيضاً، ومعظم المؤسسات تطلب الخبرات، لذلك قبلت بالعمل في أحد المؤسسات ووقعت عقدًا بمبلغ 800 دولار شهريًا شريطة أن أعيد نصفها للمؤسسة، وكان وضعي المادي صعبًا فقبلت". ولم تفكر بالذهاب إلى القضاء لأنها كانت تبحث عن عمل من فترة طويلة وخافت ألا ينصفها القضاء!
ويعد التملص من الوعود صورة أخرى من صور الاستغلال، فالقانون ليس حاسمًا، ولا واضحًا، ولا يحمي الضعاف.
والحال ذاته مع الخريج "محمد جاسر" من كلية الصحافة" الذي أخبرنا عن تجربته قائلاً: "عملت في مؤسسة إعلامية، لعدة شهور، وتفاجأت عند دفع المكافأة أن رئيس التحرير خصم نصف المبلغ، بحجة أن هناك فترة اختبار".
أما الخريجة "تحرير مرتجى" فروت تجربتها قائلة: "بدأت العمل في إحدى البلديات لمدة عام كامل وكان العمل متعباً، ناهيك عن الأمور التعجيزية التي كانت تطلب مني، مثل تصميم مجلة أو كتيب أو بروشور.. وعمل فيلم وثائقي صغير بدون توفير إمكانيات التصوير والمونتاج!".
وأضافت: "وفرت كل الإمكانيات عن طريق أصدقاء لي خارج البلدية، وفي المقابل كنت أتقاضى بالأشهر الأولى بدل مواصلات 300 شيكل فقط، وبعدها قررت تركهم فأخذت في الشهر الأخير 800 شيكل فقط لا غير".
لا يوجد قانون
وبالنظر إلى قانون العمل نلاحظ أنه لم يتطرق لحال المتطوعين أو المتدربين أو المستغلين في المؤسسات الخاصة أو أي صيغة تساهم في حماية حقوقهم من الاستغلال.
الصوراني: كيف تسعى وزارة العمل لتطبيق قانون لا تطبقه!
في هذا السياق قابلت الرسالة المحامي جميل سرحان مدير فرع غزة في الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان ليوضح لنا إذا ما كان هناك أي نص في قانون العمل لحماية الخريجين من الاستغلال فقال: "فئة المتطوعين لا تخضع لقانون العمل إطلاقاً، وتكون بدون مقابل لأن العمل هو بذل جهد مقابل أجر مالي"، مؤكدًا أن هناك عقدًا مبدئيًا لثلاثة أشهر يجوز إنهاء العقد خلالها بين المتعاقدين مع دفع أجر العامل للأشهر الثلاثة، وبعد استمراره بالعمل لأكثر من ثلاثة أشهر، يعتبر موظفًا رسميًا بالمؤسسة، أما غير ذلك فلا يوجد ضمانات.
هناك فرق
ولكي تتضح الأمور أكثر تحدثنا إلى نبيل المبحوح مدير عام الإدارة العاملة والتعاون الدولي في وزارة العمل الذي قال: "إن أي عمل بعقد يعتبر مسؤولية وزارة العمل"، لافتًا إلى أن العقد يمكن أن يكون شفويًا وطالما بأجر مقطوع أو ثابت نتعامل معه ومع المتفقين على أنه عقد موقع، بشرط أن يكون هناك ثلاثة شهور على الاتفاق وهذا وفقاً للقانون".
وهذا ما أكده وشدد عليه رفيق أبو الجبين، مدير دائرة علاقات العمل في الوزارة حيث قال: "العبرة ليست بالمسمى الوظيفي، وإنما هل يتقاضى أجرًا أم لا، والأجر هو الشرط الأساسي لاعتباره عاملًا رسميًا في المؤسسة".
ويضيف: "تصلنا كثير من الشكاوى بهذا الخصوص من خريجين وعمال تلقوا وعودًا من مؤسسات غير حكومية للعمل شرط تحسن الوضع الاقتصادي للمؤسسة، وعلى هذا عاش كثير من الشباب بأمل العمل، وحقيقة أن أصحاب العمل يتلذذون بالكذب على الشباب ليعملوا بدون راتب، وهناك حالات كثيرة، وقضايا سجلت لدينا في مكتب العمل".
واعتبر أبو الجبين أن كل شخص طبيعي يؤدي عمل لقاء أجر له حقوق أي موظف، ولا يوجد حق لمتطوع داخل المؤسسة لأن المتطوع يعمل مجاناً، وهذا ما يوقع الشباب في فخ الاستغلال.
أجور زهيدة
وحينما نتطرق إلى حق الخريجين في العمل، سنفاجأ بأن العاملين منهم أيضًا يعملون برواتب زهيدة جدًا، لا تصل إلى 500 شيكل ولا تتماشى مع بند رقم (11) من قانون العمل والذي تم اعتماده عام 2012م وسن حد أدنى للأجور 1450 شيكلًا، ولكن ذلك طبق في الضفة ولم يطبق في غزة.
أبو الجبين: شكاوى كثيرة تصل إلى وزارة العمل
ومن المفاجئ أن المشروع الذي تقوم عليه وزارة العمل في غزة تحت اسم" مشروع التشغيل المؤقت" أيضًا لا يطبق الحد الأدنى للأجور، والأجور المدفوعة للشباب لا تزيد عن ألف شيكل!
وعن هذا الموضوع أيضًا سألنا كمال محفوظ رئيس قسم التفتيش في وزارة العمل، حيث قال: "إن الوزارة لم تطبق القانون على المشروع، لأنها تريد أن تفيد أكبر شريحة ممكنة من الخريجين، على حساب الأجر المدفوع"، على حد قوله!
والأغرب أن محفوظ يؤكد أن الوزارة تسعى الآن إلى تعميم وتطبيق قانون الحد الأدنى للأجور، وقد بدأت في المدارس الخاصة ورياض الأطفال على الرغم من أن الوزارة نفسها لا تطبق القانون، معتبرًا "برنامج التشغيل المؤقت" بأنه برنامج تنمية قدرات وليس برنامجًا للتشغيل!
وحث محفوظ في حوارنا معه على مطالبة "كل الجهات المشغلة التي تعمل ببرامج التشغيل بأن تطبق الحد الأدنى للتشغيل وهو 1450 شيكلًا"، وقال" نحن رفعنا توصية للوزير لتطبيق القانون في كل مؤسسة".
أصحاب المسؤولية
وقد طرحت الرسالة تساؤلًا عن دور الجمعيات المختصة بقضايا الخريجين، وهل هناك يد لها في مساعدة هذه الفئة، حيث توجهت إلى جمعية الخريجات الفلسطينيات كنموذج وسألت مديرتها وداد الحوراني التي قالت: "نحن نقدم تأهيلًا وتدريبًا وأحيانًا فرصة تشغيل مؤقتة، حسب المشاريع المتاحة".
سرحان: فئة المتطوعين لا تخضع لقانون العمل
وتضيف: "لدينا دائرة تهتم أيضًا بتوعية الخريجات، وتوضيح قانون العمل، ما له وما عليه، لكن دورنا الأساسي لا يشمل أخذ حقوق لأي متضرر، لكن فيما لو توجه لنا أي خريج أو خريجة وطلب العون، نحاول مساعدته وإيصاله إلى الجهات القانونية المختصة".
وتساءلت الحوراني: "إذا كانت وزارة العمل لا تلتزم بالقوانين أصلًا فيما يتعلق بالأجور، فكيف يمكنها حل مشاكل الخريجين أيًا كانت ؟!!"، في إشارة إلى الأجور المعتمدة في مشروع التشغيل المؤقت.
وهناك جهات أخرى تعطي الخريجين أملًا على الرغم من عدم وضوح القانون الذي يحمي هذه الفئة، حيث قابلت الرسالة نضال غبن مدير مركز الديمقراطية وحقوق العاملين، الذي أكد عدم وجود قانون واضح، بالإضافة إلى التحايل من قبل كثير من المؤسسات لأنها تعلم أن القانون لا يحمي هذه الفئة من الشباب، موجهًا انتقادًا لوزارة العمل التي لا تطبق قانون العمل ومشروع التشغيل المؤقت نموذجًا على ذلك.
ويضيف غبن: "نحن في المركز نحاول إثبات حق العامل بكل الطرق المتاحة، حتى لو لم يكن هناك عقد للعمل بين المتعاقدين، ونحن لدينا وحدة مساعدة قانونية متخصصة بهذا الموضوع، ولدينا كثير من القضايا التي نعمل على حلها".
وأكد على وجوب التوعية أيضًا، شارحًا أن هناك دائرة في المركز وظيفتها الذهاب إلى المصانع والشركات لتوعية العاملين بحقوقهم، وكيفية حمايتها في محاولة للقضاء على ما أسماه "الأمية القانونية".
الشكوى لمن؟
وعن طريقة تقديم الشكوى نعود إلى رفيق أبو الجبين: "الشكاوى لدينا لعام 2016 تقدر ب 829 شكوى في قطاع غزة بشكل كامل تركز معظمها في الشمال ومدينة غزة، ويعود ذلك إلى أن هناك مدينة صناعية في الشمال بالإضافة إلى أن أكبر مخيمات اللاجئين في الشمال، وفي غزة أيضًا تكثر المشاريع والموظفين والعمال، أما في المناطق الجنوبية فإن معظم الناس يعملون في أراضيهم ومزارعهم لذلك تتفاوت هذه النسبة".
وعن الآلية في التعامل مع الشكاوى يضيف أبو الجبين، "نرسل إلى المؤسسة والمنشأة للتفاهم ونطالبهم بعودة الحقوق لأصحابها وإذا وصلنا إلى طريق مسدود مع المنشاة وعدم تعاونها ودفعها حقوق العاملين نغلقها بقرار من دائرة التفتيش العمالي التي تستلم القضية للتحقيق والبحث ومراجعة صاحب العمل والتوسط لعودة الحقوق الى أصحابها".
لعل الأوضاع السياسية وتقلباتها، وعدم وضوح أو تطبيق القوانين، واستغلال أرباب العمل، بحجة الحصار الذي أصبح ذريعة لكل شيء، وكذلك آلية دعم المشروعات التي تعمل على تطوير وتشغيل الشباب، وخوف الشباب من ضياع بعض فرص العمل الزهيدة التي لا تنطبق أصلاً مع قوانين التشغيل والحد الأدنى للأجور، وصمتهم على التجاوزات الممارسة بحقهم من قبل أرباب العمل، كل تلك الأسباب أضاعت حقوق الخريجين في البحث هنا وهناك وكان الاستغلال سيد الموقف.