"أوعى تاكلوا أو تدقروا السمّاقات!"
أكاد أجزم أنّها أكثرُ جملةٍ سمعتُها من جدّتي في مواسم القطاف. لكنْ لا حياة لمن تنادي. كُنّا صغارًا على كلّ شيء، وهذا الصغر كان يجعلنا ننصت إلى الكلام ولا نتقيّدُ به. على العكس، كنّا ننتظر دخولَها المطبخَ القابعَ تحت الدرَج، فنتّجه ــــ بمكر ثعلبٍ يتعلّم صيدَ فريسةٍ لأوّل مرّة ــــ إلى وكر السمّاق المبسوط على سطح منزلها القرويّ. ننظر بعضنا إلى بعض بفرحِ المنتصر عندما نصل: ها هو الكنز الذي تُخفيه جدّتي عنّا! نبدأ بالضحك الخافت والأكل، مع إصدار أصواتٍ تشير إلى حموضة تلك النبتة: "يا ريت جِبنا ملح!" وغالبًا ما كانت جدّتي تعلم أنّنا هناك، فتصرخ فينا بصوتها الجنوبيّ القويّ: "هول للزعترات، الحقّ عليّ بِقبَل تبقوا عندي!" فنهمُّ بالهرب. أذكر تلك الضحكة التي كانت تصدر عنّا: لم يأتِ شيء في هذه الحياة ليكرّرها؛ تشعر كأنّها تخرجُ من أوردة القلب، لا الحنجرة.
منزل جدّتي جميل. فيه دارٌ تتوسّطها بئرُ ماء. إلى جانبها "تنكةُ" حليبٍ قديمةٌ، فارغة، مربوطةٌ بحبلٍ طويل، كي تتمكّن جدّتي من إنزالها ورفع المياه. كنّا ننتظرها كي تفتح البئر، ونصطفُّ حولها لنرى ما يحوي. وحين نزعجها كانت تهدّدنا برمينا فيها.
أمّا الحديقة، التي ما زالت تناديها "حاكورة،" فكنّا ندخلها سرًّا لنقطف وردَها: "بِحبني، ما بِحبني، بحبني، ما بحبني..." لم يحبّنا أحدٌ مثلها. ومنحتْنا أغلى ما يمكن أن يمنحه إنسانٌ إنسانًا آخرَ: الذكريات.
تقولُ أمّي إنّ جدّتي تعبت كثيرًا في حياتها؛ فهي أُمٌّ لاثنيْ عشر ولدًا: ستّ فتيات وستّة صِبْية. من الفتيات واحدةٌ تُوفّيتْ صغيرةً بسبب الحمّى؛ ومن الصبية شابٌّ "كالجبل" (بحسب ما تصفه جدّتي) استُشهد في التسعينيّات إثر غارةٍ إسرائيليّة، بعد أن كان مُقاومًا "من النوع الثقيل."
بعد سنوات، تجلسُ جدّتي في منزلها الكبير وحيدةً؛ فجدّي قد رحل، تاركًا فراغًا في قلبها وقلب أولاده وأحفاده. ألحظُ أنّ جسدكِ باتَ متعبًا؛ أنتِ التي كنتِ تحضّرين طعامًا لأولادٍ وأحفادٍ يفوق عددُهم الثلاثين؛ أنتِ التي كنت تجهّزين لنا أمكنة نومنا قائلةً: "ناموا كعب وراس لَتْساعوا!"؛ أنتِ التي كانت "تُحوِّشُ" الزيتونَ وتصنع صابونَ الزيت؛ أنتِ التي كنتِ تُعدينّ مربّى البندورة بكمّيّاتٍ هائلة؛ أنتِ صاحبة الأكلة الألذّ "الكبّة بلبن"؛ أنتِ التي منذ استشهادِ ابنها لم تقُم باستعمال "البلاطة" لدقّ اللحمةِ لأنّه كان يحبّها بهذه الطريقة؛ أنت التي ما زلتِ ترتدين الأسود حدادًا عليه بعد أكثر من ثلاث وعشرين سنة.
جدّتي... أنتِ كلُّ الأشياء المُدهشة والمُتعبة. أنتِ التي إنْ ذكرتُ اسمَها بكيتُ. ألأنّني لا أستطيع أن أرى مصدرَ القوّة في حياتي مُتعبًا ولو لبرهة؟ أعلمُ، يا حبيبة القلب، أنّكِ لن تستطيعي قراءةَ ما كتبتُ لأنّكِ لم تتعلّمي فكَّ الحرف. لكنْ، هو قولٌ بسيطٌ أردّدهُ دائمًا:
"من دونكِ، أكرهُ السمّاق."