أينما وجد الإصرار وجد النجاح، مهما كانت هناك أعباء وعوائق في طريقنا، فثمة من أصابتهم إعاقة في الصغر وتغلبوا عليها في الكبر، ليسطروا قصص نجاح تخلد أسماءهم على معلقات المجد ويبقوا نموذجًا يحتذى به عنوانه العزيمة والإصرار.
يجوب محمود أبو ناموس شوارع مدينة غزة ويداه لا تتوقف من التلويح للمارة، بينما لا يكف فهمه عن توزيع الابتسامات على وجوههم، فمن يستطيع محاورته بلغة الإشارة لدقائق معدودة يخرج من الحوار بصديقٍ جديد لا يشبه الآخرين.
بداية أليمة
"بدأت أدرك تفاصيل حياتي وأنا ناقم عليها، كنت أحاول عبثًا أن أستمع للحوار الذي يدور من حولي بعد أن ترهقني متابعة حركة أفواه الآخرين وهي تتحرك أمام عيناي وأنا عاجز عن ترجمتها، كان يعيقني أني لا أستطيع أن أعبر للآخرين عما يجوب بداخلي وأبلغهم حاجتي".
يبدأ محمود، الشاب الذي أفقدته الحمى الشوكية النطق والسمع وهو في سن الرابعة حديثه مع مراسل "الرسالة" بتلك الكلمات التي سردت جزءًا من الشق الأصعب بحياته التي بلغت28 عاماً، استطاع فيها محمود أن يشق طريقه نحو نجاحٍ مميز.
يكشف محمود فصلاً آخر من الصعوبات التي أثقلت عليه، حين كان يرفض وضع السماعة الطبية في أذنه، كونها تفقده التركيز يقول: "كنت عنيداً لم أتقبل واقعي الصعب بسهولة، جعل أمي تدفع بي إلى معلمة صم أحببتها كثيراً وبدأت أتعلم منها لكن الموت صعقني وخطفها فجأة فتأثرت بذلك الفقد كثيرًا، وعدت لواقعي الصعب.
لم يتأقلم محمود بالفعل حينما التحق في مدرسة خاصة للصم، فقد أصابه الضجر لعدم استطاعته التواصل مع الأطفال الذين يملؤون الفصل حركة من حوله، لكنه استعاد عزيمته وعاد وتأقلم، حتى أصبح الطالب الأكثر تفوقًا بين زملائه والأكثر نضجًا، ليحصد في الثانوية العامة المركز الأول على فئة الصم في قطاع غزة.
التحق صاحب الابتسامة الجميلة بالجامعة الإسلامية بغزة ودرس دبلوم إبداع حاسوب وتخرج فيها متفوقاً بدرجة الامتياز.
الأجمل في إصرار محمود أنه لم يقبل أن يتساوى ببقية الخريجين الذين نهشهم وحش البطالة، فقبل لنفسه أن يعمل بعد تخرجه عاملاً بهمن أخرى كالدهان وبيع الدواجن وغيرها حتى لا يشعر أنه عبء على أسرته.
لا يخفي الذي يحدثنا بلغة الإشارة أنه مر بحالات إحباط سببها له أرباب العمل بعد أن كانوا يسخرون منه إلا أنه تحدى الواقع الصعب وتخطى هذه المرحلة البائسة، ليصبح الآن معلمًا محترفًا في لغة الإشارة.
ناشط بارز
يعتبر محمود الآن من أفضل معلمي لغة الإشارة، فلا يقتصر تعليمه على الصم فقط، ويحرص على تعليمها للأصحاء حتى يستطيع محاورتهم والتواصل معهم دون وسيط مترجم.
فقط استطاع صاحب الإصرار تعليم زملائه في الجامعة خلال وقت الفراغ وبالمكتبة وبالمتنزهات، حتى بدأ بشكل موسّع يعطي عددًا كبيرًا من الطلاب والمهتمين دورات مجانية يرفض أن يتقاضى مقابلها مالاً كونها تسد العجز الذي أرهق صغره".
ازداد طموح صاحب الهامة الطويل وأصبح ينشر فيديوهات عبر مواقع التواصل الاجتماعي يشرح فيها لغة الصم وكيف يمكن أن يتعلمها المشاهد، حتى أنه أصبح وسيطاً لكثير من الصم مع ذويهم، يضع لمشاكلهم حلولاً ليسهل معاملتهم مع أبائهم ويبسط لهم الحياة".
طموح لا يتوقف
يطمح محمود أولاً بأن يكمل دراسته ويحصل على درجة البكالوريوس، ويمنح الصم اختيار دراستهم وعدم تقييدهم في الدبلوم وبتخصصات محددة -كما هو الأمر في قطاع غزة-.
ويحلم الطموح أن يصبح سفيراً للصم في فلسطين لينقل معاناتهم، ويدافع عنهم ويغير من نظرة المجتمع لهم، ويؤكد أنه ينوي الارتباط بفتاة لم تعش معاناته وتستطيع مخاطبة الجميع بلغتهم كي تعينه على تحقيق حلمه الكبير.