رشاد أبو شاور
(إلى سميرة عزّام، صاحبة قصّة "الفلسطينيّ")
أخذ يفرك راحتيه بسرعة، كدأبه عندما يعبّر عن سروره، والسعادةُ تفيض من وجهه وحركاتِ جسده:
ــــ ستحْضر ابنتي من براغ اليوم، فهيّا إلى المطار! يلّا، دعنا نستفِد من سيّارتك، ونُشْعر البنتَ التي ستزورني لأوّل مرّة، هنا، أنّ لها أقاربَ يملكون سيّارة!
كنتُ أعرف أنّ "جميل" درس في براغ، وأنّه أنهى دراسة الاقتصاد السياسيّ، وأنّه تزوّج، ثمّ طلّق، وله من طليقته هذه البنتُ التي ستحضر اليوم.
يقول، وهو يفرك يديه من جديد:
ــــ صارت صبيّة. أكيد، صارت صبيّة. منذ ثلاث سنوات لم أرَها. أمّها طلعتْ محترمة، ووافقتْ على أن تزورني. أنا لم أُقصّرْ: دائمًا أرسل لها مصروفًا يزيد عن حاجتها. وزرتُ براغ بعد انتقالي إلى هنا، والتقيتُها وأمَّها. كنتُ أتمنّى أن تعيش معي، ولكنّ الحياة هناك أفضل. أمّها رفضت الحضورَ معي إلى هنا، وقالت لي: "أنت ستعيش غريبًا في بلدٍ غريب. لو أنّك تعيش في فلسطين لذهبتُ معك. أنا أحبّ براغ كثيرًا. ابقَ، واعملْ هنا؛ تستطيع أن تجد عملًا؛ فلقد حصلتَ على الدكتوراة بتفوّق." لكنّني رددتُ عليها مرارًا وتكرارًا: "سأعمل في منظّمة التحرير، وسأعيش مع أهلي حيثما يرحلون."
التحقَ جميل بنا هنا بعد الخروج من بيروت، ورحيلِنا في السفن سنة 1982. وهنا، في هذا البلد، تعرّفتُ إليه، وعملنا معًا في الدائرة الاقتصاديّة، وصرنا صديقيْن؛ فهو مرح وحزين ومتواضع... وأنا معجبٌ بصِفاته هذه.
انتظرْنا في قاعة الاستقبال. انتظرْنا حتّى الملل. وعرفْنا أنّ كلّ القادمين من براغ قد غادروا. حتّى طاقمُ الطائرة غادر أمامنا، وابنةُ صديقي لم تظهر!
توتّرَ جميل وصرخ، وهو يتقدّم إلى باب الخروج، ويطلب إلى الشرطيّ وهو يرتجف:
ــــ أريد أن أدخل لأرى ابنتي.
رفض الشرطيّ، وبسط ذراعيْه في وجهه.
استدار جميل صوبي، وارتفع صوتُه:
ــــ وحياتك أنّهم أخّروها لأنّ اسمَها يافا، ولأنّهم عرفوا أنّ والدها فلسطينيّ، رغم أنّ جوازها تشيكيّ. عجبَك؟! عجبَك؟!
توجّه إلى علبة الهاتف، وكلّم أحدًا ما. ثمّ عاد وهو يفرك يديْه كأنّما يتوعّد هذه المرّة:
ــــ بعد قليل سترى كيف سيتصرّفون!
قرابة نصف ساعة، أو أكثر قليلًا، ونحن ننتظر عند بوّابة المغادرة، وهو يضرب بقدمه الفراغَ، ويصفع براحته وُجوهًا لا يراها. وفجأةً، لوّح لسيّارةٍ على مقدّمتها علمٌ، واندفع صوبها.
عاد مسرعًا مع شابّ أشقر، عرّفني به:
ــــ القائم بالأعمال التشيكيّ.
غابا في الداخل. وعندما ظهَرا، كان جميل يحتضن ابنتَه، وهي تبكي وترتجف.
أخذ يترجم لي:
ــــ القائم بالأعمال هدّد بأزمةٍ ديبلوماسيّة إذا لم تخرج البنتُ فورًا. فهي تشيكيّة، وتحمل الجنسيّةَ التشيكيّة. فاستجاب مديرُ أمن المطار فورًا، وهو يعتذر عن هذا الالتباس غير المقصود. وبرّر الالتباس للقائم بالأعمال بالقول: "لا تؤاخذْنا، فرجلُ أمن الجوازات ظنّها فلسطينيّة!"
أخذت البنتُ تنهنه وتمسح دموعَها، بينما راح جميل يربّت على ظهرها ويقبّلها ويضمّها وهو يترجم لي:
ــــ سألوها لماذا اسمُها يافا. ثمّ سألوها عن جنسيّة والدها، فأخبرتْهم أنّه فلسطينيّ، وأنّها قادمة لزيارته، ظنًّا منها أنّهم سيرحّبون بها. فإذا بهم يوقفونها حتّى خروج آخر مسافر، ويهدّدونها بأنّهم سيعيدونها على الطائرة نفسها إلى براغ!
ربّت القائمُ بالأعمال على ظهر يافا. ومدّ يده لنا مودِّعًا، وابتسم وهو يقول لجميل:
ــــ يافا دفعت اليوم ضريبة أنّها ابنتُكَ، يا جميل الفلسطينيّ!
أزاحت يافا شعرَها، والتفتتْ إلى وجه والدها، وسألتْه بصوتٍ مرتجف:
ــــ بابا، لماذا عاملوني هكذا؟ لقد أخافوني! هل يعاملونكم هكذا يا أبي في المطارات؟!
ترجم لي جميل سؤالَها، وبسخرية سألَني:
ــــ ألديكَ جوابٌ ليافا يا صديقي؟!
مشينا صامتين إلى السيّارة، وكأنّنا في جنازة.
عمّان