غزة- الرسالة
لا يزال الفقر وبؤس الحال يحولان دون ترك الطفل أحمد. س لعمله المميت في"أنفاق" التهريب الواقعة أسفل الحدود الفلسطينية المصرية، ويبرر مكوثه محنيا داخل نفق معرض للانهيار في أية لحظة، بالحاجة لتحصيل لقمة العيش.
ولولا أن والدة أحمد تحتاج من المال ما يزيد عن مائة وخمسين دولار شهرياً للإنفاق على علاجها، لما استمر في مثل هذا العمل البائس، كما يقول.
تبدو والدته الواهنة مسرورة حينما دق أحمد باب المنزل عائداً من العمل، سالما سيما أن أعداد ضحايا الأنفاق أخذ في التزايد خلال الفترة الأخيرة، التي كثف فيها الأمن المصري استهدافه للأنفاق.
120 ضحية
وحسب إحصاءات كشفت عنها وزارة الصحة، فإن ضحايا الأنفاق بلغ عددهم ما يزيد عن 120 ضحية، كان آخرها الشاب محمد ماضي الذي لقي مصرعه الثلاثاء الماضي جراء صعقة كهربائية أصابته داخل أحد أنفاق التهريب جنوب مدينة رفح.
ويعيش أحمد، الابن الأكبر لوالديه، في بيت مكون من حجرتين تفيضان بأحد عشر فرداً، جلهم أطفال، ويتحمل أعباء الإنفاق عليهم جميعا، نظرا لأن والده عاطل عن العمل منذ سنوات.
تضع والدة أحمد يدها على قلبها-كما تقول- كلما سمعت أنباء عن سقوط نفق على رؤوس العاملين فيه، أباشر في الاتصال بأحمد للاطمئنان على سلامته.
وتبوء محاولات الوالدة المريضة بثني ولدها عن مواصلة عمله القاسِ، بالفشل، خاصة وأنه يصر على "توفير ثمن علاج والدته، حتى وإن كلفه ذلك فقدان حياته".
ويشير الشاب حنطي البشرة إلى أنه لو توفر لديه فرصة عمل آمنة، لن تحقق العائد المادي المرتفع الذي تحققه عوائد العمل في الأنفاق، مع اعترافه بأن عمله ينطوي على خطورة بالغة.
وسبق وأن صنع أحمد عربة لبيع شراب صيفي بارد يسمى بـ"البراد"، مطلع الصيف الحالي، إلا أنه يقول مستاء: "العائد المادي لم يكن يساوي ثمن العرق الذي كان يتصبب من جبيني على شاطئ البحر! (..) لذلك توجهت للعمل في الأنفاق".
ويباشر أحمد عمله صباحاً ويستمر العمل حتى ساعات متأخرة من الليل، ويحوز على مبلغ يومي يقدر بـ"25 دولار".
ويعمل المئات من الأطفال في الأنفاق التي تتراوح أعدادها ما بين ألف إلى ألف ومائتي نفق، في أجواء ملبدة بالخوف والقلق، مرغمين على توفير لقمة العيش، تشير إحصاءات إلى أن ثلث الضحايا من الأطفال دون الثامنة عشر.
حلم مفقود
ودفع الوضع الاقتصادي المتردي المواطن (أنور- ب) إلى العمل في أعماق الأرض، فقد شارف على الثلاثين، ولم يحقق بعد حلمه في تكوين أسرة.
ولم تثن محاولات أصدقاء أنور المتكررة، بمنعه من الاستمرار في عمله الشاق، لاسيما أنه يود تكوين مستقبله كما يقول.
ويقول أنور "للرسالة": نشاهد صنوفا من المعاناة تفوق ألوان قوس قزح، فالانهيارات الأخيرة جمدت الدماء في عروقي، فقد كنت قريبا من النفق الذي تسرب بداخله البنزين، موضحا أن الشبان القريبين من فتحة النفق تمكنوا من الهروب سريعاً، فيما اختنق القريبون من مكان التسرب.
ويشير أنور إلى أن عدد الضحايا يثير مخاوف عمال الأنفاق لفترة وجيزة، ولكن سرعان ما تتبدد مشاعر الحزن لحاجتهم الماسة للنقود.
ويوضح أخيه رائد (35 عاماً) إلى أن قلة العمل دفعته للعمل في مهنة الموت وتحمل كل مخاطر الأنفاق.
وقال: إنه كل صباح يودع أطفاله، وشعورا داخليا يراوده بأنه لن يرجع للبيت مرة أخرى، وسيلقى حتفه يوما ما تحت في باطن الأرض، لافتاً إلى أنه تعرض للموت ذات مرة بعد أن انهار نفق مجاور، ولولا تدخل وحدات الدفاع المدني لأصبح في خبر كان.
ويؤكد الأطباء في مستشفى أبو يوسف النجار التي عادة ما ينقل إليها الجرحى وجثث القتلى من الأنفاق- أن حوادث الاختناق بالبنزين ينتج عنها تشوهات في الجسد نتيجة المركب الكيمائي القوي للبنزين وإصابة الضحايا بحالة هستيرية.
قلة الإمكانات
ويعزو مدير عام جهاز الدفاع المدني في قطاع غزة العقيد يوسف الزهار، عدم القدرة على انتشال الكثير من جثث ضحايا الأنفاق، إلى عدم إبلاغ الدفاع المدني لحظة وقوع الحادث، إضافة إلى قلة الإمكانات المتوفرة لديهم.
وأوضح الزهار أن الدفاع المدني علم بحادثة مصرع سبعة مواطنين داخل نفق قبل نحو عشرة أيام، بعد ساعات من وقوعها.
وقال: "على مدار 13 ساعة عملت طواقم الدفاع المدني مع ذوي الخبرة وتمكنا من خلال طرق بدائية من إنقاذ حالتين فقط"، مبينا أن الدفاع المدني يمتلك أنابيب أوكسجين لا تتجاوز مدتها النصف ساعة.
وأشار إلى أن رجال الدفاع المدني يواجهون صعوبة في بعض الأحيان نظرا لان الضحايا قد يكونوا عالقين على بعد مسافة تزيد عن 400 متر من "عين" النفق، الأمر الذي يصعب مهمة المنقذين.
وثمة مطالبة بتجميد عمل الأنفاق، جاءت عبر مراكز حقوقية محلية، للحد من تزايد سقوط الضحايا.
وعبر مركز الميزان لحقوق الإنسان عن أسفه الشديد لسقوط هذا العدد الكبير من الضحايا، الذين دفع الفقر أغلبيتهم للمغامرة بحياتهم من أجل لقمة الخبز.
وأشار المركز في تقرير له أن عمل التهريب في الأنفاق طريقة غير شرعية، مطالبا الحكومة الفلسطينية بضرورة وضع حلول لتلك الأزمة التي حصدت أرواحا عديدة.
ويعزو المركز رواج تجارة الأنفاق بسب منع حرية دخول البضائع وإمدادات الشأن الإنساني، الأمر الذي شكل جريمة حرب مست بأوجه حقوق الإنسان كافة بالنسبة لسكان القطاع.
أحد البدائل
وشكلت الأنفاق أحد البدائل والتدابير لمواجهة الحصار وتداعياته، وضمان استمرار حياة المجتمع، وطالب الميزان من الحكومة وجهات الاختصاص باتخاذ التدابير اللازمة لحماية أمن وسلامة من يعملون في تجارة "الموت"، بما فيها من مواصفات الأمن والسلامة، ومعدات الإنقاذ.
ودعا مركز الميزان الحكومة في غزة بالشروع فوراً في ممارسة واجباتها القانونية ووقف كارثة الأنفاق التي أضحت تودي بحياة العاملين فيها بشكل يومي.
وتقول المادة (93) من قانون العمل الفلسطيني والتي تنظم عمل "الأحداث" يحظر تشغيل الأطفال قبل بلوغهم سن الخامسة عشر.
إلا أن المادة (95) تقول لا يجوز تشغيل الأحداث في الصناعات الخطرة أو الضارة بالصحة، كالأعمال الليلية أو الأعياد الرسمية أو الدينية أو أيام العطل الرسمية، وكذلك الأماكن النائية أو البعيدة عن العمران.
فيما اشتملت المادة (96) من القانون ذاته على "تخفيض ساعات العمل اليومي للأحداث بما لا يقل عن ساعة عمل واحدة يوميا، كما تتخلل ساعات العمل اليومي فترة أو أكثر للراحة لا تقل في مجملها عن ساعة بحيث لا يعمل الحدث أكثر من أربع ساعات متواصلة.
القانون و الضمانات
ويقول صلاح عبد العاطي مدير الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان: "إن قانون العمل حدد ضمانات لعمل الأطفال"، مؤكدا أن عمل الأطفال في الأنفاق يخالف شروط السلامة الصحية التي طالب بها قانون العمل الفلسطيني.
وأضاف عبد العاطي لـ"الرسالة": هناك خطورة بالغة تنطوي على عمل هؤلاء الأطفال في الأنفاق وهم يعملون بشروط عمل أقرب للسخرة منها للقانون (..) الأمر جدا خطير وتكررت حوادث موت الأطفال داخل الأنفاق إما بالاختناق بالغاز السام أو بانهيار النفق".
وأشار إلى أنهم ينظرون لظاهرة عمل الأطفال في الأنفاق بخطورة شديدة، لاسيما بعد ما وصفه بعدم اكتراث الجهات الرسمية بمتابعة الأمر.
لكن المتحدث باسم وزارة الداخلية إيهاب الغصين، قال لـ"الرسالة": وزارة الداخلية تتابع بالتعاون مع بلدية رفح، للحد من هذه الظاهرة، مؤكدا أنهم أجروا اجتماعا في وقت سابق مع مالكي الأنفاق لمطالبتهم بعدم تشغيل الأطفال في مثل هذه الأشغال الشاقة.
وأضاف الغصين: "إن لم تكن تلاشت هذه الظاهرة فهي باتت محدودة جدا، لاسيما بعد تعهد مالكي الأنفاق بعدم قبول الأطفال في مثل هذه المهام الصعبة".
وإن كان عدد من مالكي الأنفاق –رفضوا الكشف عن أسمائهم- قد ألمحوا إلى أنهم يرغبون في عمل الأطفال "لأنه يعد اقل تكلفة مقارنة بعمل كبار السن وأرباب الأسر".
وأكد عمال أن العمل في الأنفاق أصبح يتطلب الحصول على بطاقة من قبل جهة رفضوا الكشف عن اسمها، وذلك لضمان عدم تشغيل الأطفال في هذه الأنفاق.
ويرى الخبير الاجتماعي الدكتور جميل الطهراوي أن السبب الرئيس في التوجه للعمل في الأنفاق؛ بسبب الظروف الصعبة التي يعاني منها شعبنا جراء الحصار الظالم المفروض عليه من قبل الاحتلال الإسرائيلي ومن أجل الحصول على لقمة العيش.
ويقول الطهراوي لـ"الرسالة": "الأجر مغري نسبيا بالنسبة للشبان الذين يسعون لتغيير ظروفهم الصعبة"، مشيرا إلى أن الآثار النفسية التي يمكن أن تترب على العمل في الأنفاق لا تلبث أن تزول بتقاضي أجرهم الزهيد.