قائمة الموقع

قصة قصيرة (خوف)..

2010-06-21T09:33:00+03:00

العصفورة تقف وراء النافذة تنتظر، وعمر يجلس في آخر المقاعد منشغلاً في قضم أظافره، وتلك الطفلة تلتزم الصمت كعادتها دون مبرر، وأنا استرق النظرات مع زملائي من خلف الباب، صرخات الأطفال في الغرفة المجاورة تعبر عما نشعر به، يوسف منهمك في تفقد واجباته، ونحن نضحك على يديه المرتجفتين ولسانه المتلعثم كعادته ..

ركضنا جميعاً مسرعين إلى مقاعدنا بعدما لمحنا شعرها المغبر الأشعث هائجاً في بداية ذلك الممرر الطويل، تخطو عبر أبواب الصفوف المرصوصة على طول الممر، تصرخ في وجه كل طفل يعترض طريقها، فينتشرون جميعا ًمسرعين عائدين إلى صفوفهم.

بأصوات مكتومة مرتجفة وفي صمت التزمنا أماكننا.. وبدأنا نصلي..أنفاسنا معبقة بتراتيل الطفولة العبثية..وكل منا يحلم بمعجزة تبعد عيون هذه المعلمة عن عيوننا المحدقة إلى المجهول، حتى لا يقع اختيار إصبعها الحائر على احد منا فتحكم عليه يومها بالمعصية .

حجم الغفران الهائل الذي يملئ صدورنا لم يشفع لنا يوماً أمام الضربات والشتائم التي تخرج من لسان تلك العملاقة المشبعة برذاذ بعض من لعابها ذو الرائحة النجسة .

وتلك الطفلة ما زلات في زاوية الصف تلتزم الصمت، وأنا أحدق في ذلك العصفور الواقف خلف الشباك الحديدية الصدئة، فأرجوه بنظرة الطفولة الحائرة بأن يبتعد عن مكان الخطر، فمدرستنا مليئة بالصيادين ..ثم أحسده على حريته وأطرد فكرة الاعتقال من مخيلتي حتى لا تنساب دموعي رغماً عني كما تعودت كل صباح ، كلما أيقظتني أمي في موعد الذهاب إلى المدرسة..و تقع عيناي ثانية على صديقي عمر الذي ما فتئ يقضم أظافره المرتجفة كعادته كل صباح .

قفزت قلوبنا بانتظار الكلمة المعتادة "ألم أقل لكم ألا تقفوا على الباب يا بغال "

لكن المفاجأة التي أذهلتنا..أنها اليوم مبتسمة على غير عادتها، وبرفقتها امرأة غريبة لم يسبق لأي منا أن شاهدها داخل المعتقل، أخذت الغريبة مكانها في أخر الصف، وبدأت بصمت تكتب ما لا نعرفه، ومعلمتنا غدت جميلة هذا الصباح، وشعرها مرتب على غير عادته، والابتسامة أخذت موقعاً مشرقاً على محياها، فبدت اصغر كثيرا من عمرها، وصوت تلك العصفورة يعلو مغرداً في أرجاء الصف على غير عادته..وأنا يكاد يقتلني الفضول عن ماهية تلك الغريبة الجالسة في الخلف والتي قلبت أحوال هذا المعتقل ..

عيوني جاحظة على تلك الطفلة التي تكلمت أخيراً، وأجابت إجابة صحيحة للمرة الأولى، وبدأنا نطرب لكمات المديح من فم معلمتنا التي لم نسمعها قبلا، فيتحول ضعفنا إلى قوة، والمعتقل بدأت تتفجر فيه ينابيع من الطفولة، وعمر نسي أظافره في تلك الساعة، ويوسف انطلق لسانه المربوط وفكت عقدته المتلعثمة، وبدأت اشعر بروائح عطرة تدخل إلى صدري لأول مرة منذ بداية العام، ومعلمتنا لبست أخيرا ثياب الأم وخلعت عنها ثياب السجان.

وقفت الضيفة فجأة في خطوة لم نعمل لها حساباً، وتوجهت نحو الباب، وخوفنا عاد أدراجه إلى نفس المكان ..غادرت الغريبة بعد أن قالت لمعلمتنا أن التقرير ممتاز وأنها ستسلمه للوزارة غدا..وأنا ما زلت على جهلي ،فلم استطع فك طلاسم المرأة المجهولة ..

أغلقت الباب بقوة أعادتنا إلى حلقة الرعب القديمة، ففزت قلوبنا من صدورنا وراء صوته المخيف، ومعلمتنا كشرت عن أنياب السجان المعهودة ، وجالت بنظرتها كالعادة عبر وجوهنا المنتظرة، ثم أوقعت اختيار أصابعها الطويلة على تلابيب زميلنا حسن، رافعة صوتها في أرجاء المكان"لماذا لم تبدل ثيابك القذرة أيها البغل، ألم اقل لكم أن تأتوا إلى المدرسة هذا اليوم .. بثياب نظيفة "

العصفورة هربت ...

وتلك الطفلة عادت إلى صمتها الغريب...

وعمر بدأ ينظر إلى النافذة ويقضم أصابعه كالعادة ...

ويوسف يرتجف ويقلب في أوراقه باحثاً عن الجواب الصحيح لنفس السؤال ...

وأنا استرق النظرات الزائغة المتوسلة وأعد الضربات الساقطة على يدي حسن الغاليتين...

اخبار ذات صلة
قصة قصيرة "خبر عاجل"
2010-06-15T07:12:00+03:00