قائد الطوفان قائد الطوفان

مقال: حدود التسخين والتهدئة في الأزمة بين تركيا وأوروبا

حسام شاكر الخبير في الشؤون الاوروبية
حسام شاكر الخبير في الشؤون الاوروبية

بقلم الكاتب/ حسام شاكر

ما إن تطل أزمة جديدة برأسها في أفق العلاقات المتبادلة بين أنقرة وعواصم أوروبا -كما يجري الآن- حتى تُستنفر مفرداتُ التأجيج المعهودة بين الجانبين، فتتراكم الشكوك بشأن فرص القبول بتركيا ضمن الأسرة الأوروبية.

نشب التوتر الجديد بعد قيام السلطات التركية باحتجاز صحفي ألماني تركي نهاية فبراير/شباط الماضي، وإثر محاولات حظر تجمعات جماهيرية يحضرها وزراء أتراك لمخاطبة جالياتهم في ألمانيا والنمسا وهولندا، ضمن حملة الترويج للنظام الرئاسي المقترح في تركيا والمزمع التصويت عليه في استفتاء شعبي يوم 16 أبريل/نيسان القادم.

تبدو هذه الوقائع كافية للتصعيد اللفظي والإعلامي بين الجانبين، حتى إنّ الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لم يتردد في الإلقاء بثقله فيها من على منصات جماهيرية.

تراكمات الأزمة وملابساتها

يبدو أنّ أنقرة تحتفظ بأعباء معنوية صعبة إزاء شركائها الأوروبيين الذين بدا أنهم خذلوها لحظة انقلاب 15 يوليو/تموز، عندما عمّ الصمت عواصم القارة خلال حدثٍ هدّد الديمقراطية بالسحق تحت عجلات الدبابات.

ثم انطلقت من فورها تلك الموجة الناقمة على أردوغان في وسائل الإعلام الأوروبية، فبلغت حد هوس الأغلفة والعناوين بطرائق مخيفة ولغة مهينة، وتم توظيف حالة الطوارئلهذا الغرض مع إغفال جسامة واقعة الانقلاب.

"لا يأتي التوتر الجديد بين تركيا والأوروبيين معزولا عن تراكمات وملابسات، فبعض بلدان أوروبا منزعجة من تفاعل الجاليات التركية الدافئ مع الحدث السياسي في وطنها الأم، وتأتي عرقلة الفعاليات الجماهيرية لمخاطبة الأتراك في ألمانيا وغيرها طورا جديداً في هذا المسعى الذي يستهدف على ما يبدو إضعاف التأثير الرسمي التركي في أوساطهم"

لا يأتي التوتر الجديد معزولا عن تراكمات وملابسات، فبعض بلدان أوروبا منزعجة من تفاعل الجاليات التركية الدافئ مع الحدث السياسي في وطنها الأم، وتأتي عرقلة الفعاليات الجماهيرية لمخاطبة الأتراك في ألمانيا وغيرها طورا جديداً في هذا المسعى الذي يستهدف على ما يبدو إضعاف التأثير الرسمي التركي في أوساطهم.

امتدت الانتقادات خلال الصيف الماضي إلى فعاليات جماهيرية مدنية شهدتها بلدان أوروبية تنديدا بمحاولة الانقلاب العسكري، فقوبلت بانتقادات حادة مثل ما صدر عن وزير الخارجية النمساوي سباستيان كورتس الذي انتقد أردوغان وأظهر استياءه من مظاهرات فيينا ضد محاولة الانقلاب، حتى بلغ به الموقف حد قوله إنّ "من يريد الانهماك في السياسة الخارجية التركية فالسبيل متاحة له لأن يغادر بلدنا".

وفي النمسا ذاتها سعت الحكومة -من خلال "قانون الإسلام الجديد" المثير للجدل- إلى حجب التمويل الخارجي عن المساجد والمؤسسات الإسلامية، وهو ما يمسّ أساسا بالدور التركي الرسمي من خلال عشرات الأئمة الموظفين والجمعيات والمساجد الممولة من أنقرة.

ثم طرأ في فبراير/شباط الماضي اتهام موظفين في جمعيات ألمانية ونمساوية مرتبطة بإدارة الشؤون الدينية التركية بمزاولة "التجسس" على مواطنين أتراك، وهو ملف شائك قد يكون له ما بعده.

لا يخفى أنّ أنقرة تقود منذ سنوات توجهات واضحة نحو توطيد العلاقة مع "رعاياها" في أوروبا الغربية الذين تعتبرهم مواطنين مغتربين، علاوة على أنّ من يحتفظون بالجنسية التركية منهم ينطوون على مخزون تصويتي داعم تقليدياً لأردوغان، وهو ما يكتسب أهمية ترجيحية في سباق الاستفتاء على النظام الرئاسي.

وقد باشرت أنقرة في الأعوام الأخيرة سياسات لإنعاش الهوية التركية في صفوف أتراك الخارج، بما يشمل مثلاً دعم المراكز والجمعيات التي تتولى تعليم اللغة التركية والقيام بنشاطات ثقافية ذات صلة.

مقابل ذلك؛ برزت حساسية فائقة في أوساط أوروبية من التجمعات الجماهيرية والانتخابية التي تقوم بها القيادة التركية في مدن مثل كولن وبرلين وفيينا وغيرها. وقد حشدت بعض التجمعات من الأعداد والحفاوة ما لا يحلم بمثله قادة تلك الدول أنفسهم.

ورغم محاولة الخطاب الرسمي التركي أحيانا أن يبدو متوازناً بين الالتزامات نحو الوطن الأم ونظيرتها نحو الوطن الجديد؛ فإنّ ذلك لا يهدّئ من روع سياسات أوروبية مسكونة بهاجس "المجتمعات الموازية" وتدفع باتجاه "الاندماج"، وهو شعار يتسع لتأويلات وتطبيقات متضاربة لا تستثني إرادة الهضم الثقافي والصهر في بوتقة "الثقافة السائدة".

هكذا تكتسب علاقة أنقرة مع الجاليات التركية حساسية خاصة في دول أوروبية تتقدمها ألمانيا والنمسا وهولندا. ومن مفارقات المشهد أنّ سلسلة الانتقادات الموجهة لأنقرة بانتهاك حرية الصحافة وسلامة الصحفيين، لا تنسجم مبدئياً مع حظر فعاليات جماهيرية تركية في ألمانيا وغيرها على نحو يمسّ بحرية التعبير والتجمع، وإن كانت الذرائع التبريرية لهذه الخطوات منسوجة بعناية، من قبيل أنها تنطوي على "تهديد للأمن العام".

حساسيات وأجواء ضاغطة

كشف التصعيد الراهن مجددا عن تحسّس بالغ يكتنف العلاقات التركية/الأوروبية، إلى درجة دفعت أردوغان إلى الاغتراف من قاموس فائق الحساسية بالنسبة للألمان تحديداً، وهو التذكير بالماضي النازي لبلادهم. إنها إشارة صادمة بالنسبة لبرلين بكل تأكيد، وتقضم من رصيد التقارب الودي بين البلدين وفرصه المستقبلية.

وإذ تتأجج مشاعر الاستياء في الشارع التركي من مواقف وتعبيرات ألمانية وأوروبية، تعلو موجة جديدة من التصعيد الإعلامي والسياسي في أوروبا ضد أردوغان، بعد أن شغل دونالد ترمبالأغلفة والتعليقات طوال الشهور الأخيرة.

ولا تبدو حكومة ميركل معنية بتأجيج الأزمة رغم ما صدر عنها من انتقادات متعددة لأنقرة، لكنها تقع تحت ضغوط صارمة من حزبيْ الخضر واليسار، علاوة على موجة تحركات في الشارع الألماني تفاعلا مع قضية الصحفي دينيتز بوجيل المحتجز في تركيا، والذي يحمل الجنسيتين الألمانية والتركية بما يجعله بحكم القانون تركياً في تركيا وألمانياً في ألمانيا.

ويسعى الضغط الداخلي المتصاعد على الحكومة الألمانية بشأن ملف دينيتز إلى دفع برلين نحو خطوات ملموسة كي يطلق الجانب التركي سراحه. وعندما يأتي الضغط من منابر إعلامية بارزة -مثل صحيفة "فيلت" البرلينية اليمينية التي يعمل دينيتز مراسلاً لها- فإنّ التسخين لن يكون مجرد صيحة في وادٍ أو نفخة في رماد.

ويتعاظم في سياق الحملة دور شخصيات معارضة لسياسات أنقرة من بين الأكراد وأتراك المهجر البارزين في أحزاب ألمانية ومنظمات المجتمع المدني، علاوة على دور جان دوندار الصحفي التركي الذي انتقل إلى ألمانيا، بعد ملاحقته سابقاً على خلفية تغطية مثيرة للجدل عن مزاعم بنقل المخابرات التركية أسلحة وذخائر إلى جماعات مسلّحة في سوريا.

تأتي الأزمة الجديدة في سياق حساس بالنسبة لأنقرة، فهناك في أوروبا من يختبر صبرها على سلوكيات تبدو في عيونها استفزازية، ومعها لا تملك القيادة التركية سوى الرد التصعيدي، لا سيما في سياق حشد التأييد للتعديلات الدستورية.

ومن شأن هذا التسخين أن يدعم موقف قيادة أردوغان داخليا رغم الخسائر الخارجية المترتبة على الأزمة، لا سيما بالنسبة لجمهور المعسكر القومي التركي الذي سيحتشد خلف رئيس الجمهورية في وجه التصعيد الأوروبي، وهو ما حاول وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي تفويت الفرصة عليه بتجنب التصعيد الجماعي نحو أنقرة خلال اجتماعهم ببروكسل في 6 مارس/آذار الجاري.

لقد بات واضحا أنّ التحسّس المتزايد بين أنقرة وعواصم أوروبا يمنح أطرافاً -من الدرجة الثانية فما دونها- فرصة لاستدراج العلاقات المتبادلة إلى مربّع التأزيم السهل من حين إلى آخر، عبر تغطية صحفية ناقدة أو رسم تهكمي أو نص ساخر، أو بتأثير إجراء إداري يعوق ملتقيات جماهيرية وانتخابية مثلاً، بما يضمن إشعال حرائق سياسية وإعلامية.

وتدعم خياراتِ التأزيم أحزابُ اليسار والخضر وأقصى اليمين كما عليه الحال في ألمانيا والنمسا بشكل خاص، مع تأثير واضح لقوى كردية وجماعة غولن وبعض الاتجاهات التركية اليسارية والليبرالية.

أما القوى الألمانية المحافظة في يمين الوسط -مثل حزب المستشارة أنجيلا ميركل- فتستبعد الانجراف خلف دعاية القطيعة، وتبقى متمسكة بالتعاون العسكري والإستراتيجي والاقتصادي مع أنقرة الشريك في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، رغم التحفظ الضمني على عضوية تركيا في الأسرة الأوروبية.

أعمق من الحدث

أفصحت التوترات التركية/الأوروبية عن مغزاها الأهم وهو التوجّه الأوروبي الكامن بعدم الرغبة في استيعاب بلاد الأناضول في القارة الموحدة.

ثمة قليل من المصارحة في التسخين المتصاعد ضد تركيا، ومن ذلك أنّ أوروبا بادرت من جانبها إلى تعقيد مسارات التفاوض بشأن انضمام الأتراك إلى الاتحاد الأوروبي، وأنّ لغة التعالي التي يتم استعمالها نحوهم تعود بتأثيرات عكسية حتى على الإصلاحات ذاتها التي حفّزتها آمال العضوية الأوروبية.

واضح أيضا أنّ القيادة التركية لم تعد متحمسة لاسترضاء الأوروبيين، ولا ينتابها تردد في التسخين خلال المواسم الانتخابية إن تطلب الموقف ذلك، وفي ذلك تعبير عن لامبالاة أنقرة بحلم العضوية الذي يبدو أنه انقشع بالفعل.

ولا مجال لتفاؤل بعضوية كهذه مع صعود أقصى اليمين في القارة، خاصة بعد أن تسبّب يمين الوسط بعواصم أوروبية -بدءاً من منتصف العقد الماضي- في تقويض آمال استيعاب تركيا رغم إصلاحاتها النشطة تحت قيادة أردوغان، وهو ما يؤكده اليوم بوضوح السياسي الألماني غونتر فيرهويغن الذي شغل سابقاً منصب نائب رئيس المفوضية الأوروبية ومفوض ملف توسعة الاتحاد.

أما التلويح بورقة "حرية التعبير والصحافة" فيكتسب رمزية خاصة في هذا الشأن، لأنها كناية عن حدود أوروبا المعنوية، فخلال محطات التأزيم تتصاعد أصوات أوروبية تعتبر أنّ واقع تلك الحرية في تركيا كفيل بمنع عضويتها.

لدى أنقرة روايتها المقابلة في هذا الملف بالطبع؛ علاوة على أنّ مسألة الحريات هذه لم تقف حائلا دون التقارب الألماني/المصري الذي وقع تتويجه بزيارة المستشارة ميركل للقاهرة، ولقائها هناك رموز حكم عسكري في رداء مدني.

لا يحجب هذا كلّه حقيقةَ مأزق تركيا عندما تبدو كمن يطارد صحفياً على خلفية مزاولته المهنة، وهي معضلة لا يسع أنقرة أن تستهين بمفعولها، خاصة أنّ قيادة أردوغان واقعة في بؤرة الترصّد والملاحظة التي تسلط الأضواء على الوقائع القابلة لإثارة الجدل، فكيف إن كان الصحفي المحتجز "نصف ألماني" ومتعاقداً مع منبر إعلامي بارز في برلين؟!

مجرد انزلاق عابر؟

للأزمة الراهنة حدودها المنطقية، فأنقرة تدرك حاجة أوروبا إلى استقرار التفاهمات معها في ملفات عدة منها مسألة اللاجئين وملفات إستراتيجية وأمنية، علاوة على تشابك المصالح الاقتصادية والتجارية بين الجانبين، ومنها خطوط عبور الطاقة مثلا. ثم إنّ إيصاد بوابات أوروبا في وجه أنقرة ينطوي على مخاطرة أوروبية بإنضاج محور روسي/تركي متماسك وغير مرغوب فيه أوروبياً.

لا غنى لأوروبا عن تركيا، بما يجعل التصعيد الجديد انزلاقاً غير محسوب في العلاقة المتبادلة. تبدو فرضية الانزلاق العابر راجحة بالنظر إلى أنّ تدهور العلاقة الألمانية/التركية جاء بعد أسابيع من زيارة المستشارة ميركل لأنقرة التي يُفترض أنها قلّصت الفجوة بين الجانبين.

ولا مصلحة لأوروبا في تصعيد حادّ مع تركيا، خاصة في مرحلة ضاغطة يواجه فيها الأوروبيون اختبارات شاقة مع حليفهم الأميركي وجارهم الروسي، علاوة على مصاعب بيتهم الداخلي بعد قرار الانفصال البريطاني عنه.

من المستبعد أن تهدأ الأزمة مع أنقرة حتى الفراغ من الاستفتاء التركي على النظام الرئاسي، لكنّ الجانبين لن يحتملا مزيداً من التصعيد على الأرجح. تقف تركيا اليوم إزاء قارة متعددة الأهواء ولا تفتقر إلى أطراف تسعى إلى استفزازها بشكل دؤوب، بما يزيد من وطأة الأواصر الشائكة.

وتبقى أنقرة بحاجة لصون شراكتها مع أوروبا ولو بقي ذلك خارج النادي الأوروبي الذي يفقد اليوم يقينه بشأن مستقبل الوحدة.

أما أوروبا فلا جدوى تبتغيها من تأزيم مزمن مع تركيا ستكون له تبعاته في عالم تتحرك فيه خرائط التحالف سريعاً، فضلا عن أن يكون للأوروبيين مصلحة رشيدة في استثارة المكوِّن التركي المستقر بكثافة في تجمعات مدينية كبرى بغرب القارة، أو في استفزاز الناخبين الأتراك خلال حملة استفتاء شعبي ساخنة.

البث المباشر