"إن لم تكن مثقفًا مشتبكًا فلا منك ولا من ثقافتك"، مبدأ رسخّه الشهيد الثائر والمثقف المشتبك باسل الأعرج خلال مسيرته التي بدأها مثقفا ثم ثائرًا إلى أن لقي ربه مقاومًا مشتبكا كما أراد.
ثقافة الاشتباك تبدو غريبة في ظل بيئة يلتهمها التنسيق الأمني وتغزوها مفاهيم الاغتراب الوطني، وإن تجلت من وسطه تجارب مهمة في عمل المقاومة الشعبية، لكنها لم تكن كافية لإشباع حاجة المثقف ما لم يصل الأمر الى اشتباك مباشر ومن نقطة صفر.
وتدرجت ثقافة الشهيد الذي أصبح أيقونة مهمة في الثورة الشعبية بقرى وبلدات الضفة، من مؤرخ لتاريخ القضية ومؤلف في مسارها، إلى واحد ممن يرهق الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة والاحتلال معًا، بعدما ركل بقدمه "مهنة الصيدلة" التي تخرج منها وبتقدير امتياز.
ثقافة كان يدرك الشهيد أنه سيدفع ثمنها منذ اللحظة الأولى التي اعتقلته فيها الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة، وقتها قال لأمه: "هذه بداية عهد جديد سأدفع ثمنها حياتي" كما تقول للرسالة.
وأدرك باسل أن هذه الثقافة لن تجني محصولًا سريعًا، لكنه كما يقول " كل ما تدفعه في المقاومة إذا لم تحصده في حياتك، فستحصل عليه لاحقاً، المقاومة جدوى مستمرة".
ولم يفتأ الشهيد أن يردد دائمًا "الاشتباك جاي جاي" ويغرد دائمًا "إن لم تعزف على ألحان الرصاص فما طربت نفسك يومًا"؛ ليثبت أن المثقف هو من يلتحم مع أبناء شعبه، وهو من يسعى لخلق أدوات فعل قادرة على الدفاع عنه وعن حقوقه.
وبدا المثقف أكثر وعيًا لطبيعة كي الوعي الذي تمارسه السلطة وأطراف أخرى ضد الفكر الجمعي في الضفة، فهو نفسه يفند فرضية أن العمل الجهادي أسطورة لا يمكن القيام بها، ويقول إن الفدائي يحيى عياش كان يملك ما يملكه أيا منا ولم يكن ذو قدرات خارقة لكنه ملك أن يرسخّ لعالم آخر ولم يسلم بنظرية التعايش مع الأمر الواقع.
وخطب ذات يوم في اصدقاءه المثقفين ليناديهم بقوله "لا تعتَدْ رؤية الصهيوني، حتى لا تألفها عينك قبل عقلك، بل افعل ما يفعله أبناء غزّة حينما يشاهدون صهيونياً، يركضون باحثين عن حجرٍ لرجمه به".
وبرهن الشهيد بدمائه أن المثقف لا يحتمي خلف أفكاره وكلماته، بل يحميها ويسوّرها بروحه ودمائه.
وكان الشهيد حريصًا في حياته على تأكيد هذا الفكر من خلال تنظيمه ندوات تثقيفية في عدد من محافظات الضفة، وعقد محاضرات وطنية وتاريخية، وناقش مواضيع تخص الفكر المقاوم. كذلك كان يحرص على أن يكتب باستمرار في عدة مواقع فلسطينية عدداً من المقالات المتنوعة، التي تتمحور حول مواجهة الاحتلال وأمن المقاوم، ومن بينها مقالة تعكس شخصيته المثقفة كباحث ومؤرخٍ، عنوَنها بـ "عش نيصاً... وقاتل كالبرغوث".
واختار النيص لأنه كما كتب "يملك نوعا غريبا من البارانويا أو ما نسميه فلسطينيا بالحسّ الأمنيّ". كما اختار القتال على طريقة البرغوث لأنه كما قال "يملك استراتيجية قتالية فهو يخز ويقفز ثم يعاود الوخز، لا يستهدف قتل خصمه بل إنهاكه، وإزعاجه وإثارته".
وأثبت الشهيد أن الثقافة ليست بعدد الرصاصات التي يتم إطلاقها على العدو، وهي في المقابل ليست مجرد تنظير، هي في واقعنا حالة تمزج بين الفعلين تحت عنوان ثوري هو التمرد، بأن نكون في حالة اشتباك فكري وسياسي واقتصادي واجتماعي وعسكري أيضًا.
وهنا يدرك الأب مانويل مسلم راعي العالم المسيحي في منظمة التحرير، أن ثقافة الاشتباك تستوجب حصنًا حاميًا في الداخل المحتل، ويؤكد أن هذا الفعل بحاجة ليتجاوز ميدان القول الى ساحة الفعل والقوة والتأثير.
ويقول الأب مسلم لـ "الرسالة"، إن ابسط رد لحماية المقاوم هو التمرد وإعلان العصيان على واقع الهزيمة التي خلفتها اتفاقات أوسلو والتي جعلت من الفلسطيني المقاوم القادم من الغربة حارسًا لبوابات الاحتلال ومخبرًا يعمل لصالحها".
وهو ذات النهج الذي أسس عليه الشهيد المثقف يوم قال إن السلطة الفلسطينية تشكل انتكاسة في الوعي فهي التي بدلت المقاوم إلى مقاول وجعلت من القضية بقايا حلم.
رحل باسل تاركاً وصيته على عجالة في ساحة المعركة، وتم العثور عليها بخط يده بين كتبه ودفاتره، وكانت قصيرة للغاية.
وقال فيها "أنا الآن أسير إلى حتفي راضياً مقتنعاً وجدت أجوبتي. يا ويلي ما أحمقني، وهل هناك أبلغ وأفصح من فعل الشهيد؟ كان من المفروض أن أكتب هذا قبل شهورٍ طويلة، إلا أن ما أقعدني عن هذا هو أن هذا سؤالكم أنتم الأحياء، فلماذا أجيب أنا عنكم، فلتبحثوا أنتم. أما نحن ــ أهل القبور ــ فلا نبحث إلا عن رحمة الله".
يشار إلى أن التنسيق الأمني مع الاحتلال جريمة وخيانة يستوجب فاعلها المحاكمة والمحاسبة، طبقًا للمادة (1و 2) من قانون أصول المحاكمات الجزائية الثوري لمنظمة التحرير الفلسطينية لعام 1979.
وتصل العقوبات الجنائية العادية إلى حد الاعدام، ويندرج من بينها أي عمل من شأنه المساس بالثورة أو العاملين فيه، بينما تصل العقوبات الجنائية السياسية الى السجن المؤبد، ويندرج تحتها أي تعاون سياسي مع الاحتلال.
كما جرمت اتفاقات المصالحة وفي مقدمتها اتفاق القاهرة 2005 أي علاقة أمنية مع الاحتلال، بما في ذلك تقديمات معلومات عن المقاومة او تسليم المقاومين، عدا عن دعوة الـمجلس المركزي لمنظمة التحرير، السلطة بضرورة التوقف عن التنسيق الأمني، وهي خطوات ضربت بها السلطة عرض الحائط.
وإزاء ذلك يقول القائد الأسبق لقوات الاحتلال (الإسرائيلي) في قطاع غزة شاؤول أرئيلي، وأحد منظري معسكر السلام الصهيوني "إن إصرار عباس على التعاون الأمني مع (إسرائيل)، لم يسفر إلا عن مصادرة مزيد من الأراضي الفلسطينية وتهويدها"، وأن "نتنياهو جعل من عباس أضحوكة في نظر أبناء شعبه، فبدلاً من أن يكافئه على ضبط الأوضاع الأمنية فإنه يعاقبه بمصادرة أراضي الضفة".