"الكبار يموتون والصغار ينسون"، تسربت هذه المقولة الشهيرة التي أطلقها أول رئيس وزراء الاحتلال الاسرائيلي ديفيد بن غوريون إلى أذهان الأربعيني طارق شاهين منذ أن كان في عقده الأول من حياته، ما دفعه إلى مواجهتها حين اشتد عضده.
منذ عقد من الزمن يسابق الأخوان طارق ونايف شاهين الزمن لجمع المقتنيات الأثرية التي جلبها الأجداد من بلدتهم المحتلة نعليا داخل مضافة تتوسط منزلهم بمخيم جباليا شمال قطاع غزة، من أجل الاحتفاظ بها وخوفاً من اندثارها مع طي الأعوام.
أكثر من 300 قطعة أثرية مصطفة بمشهد يحاكي مضافة مختار أهالي نعليا التي كان يجتمع فيها أهالي القرية قبل احتلالها عام 1948، "الرسالة" كانت ضيفاً وسط قرية نعليا المحتلة التي تنتظر العودة من مخيم جباليا.
لا تقدر بثمن
يقول "طارق شاهين" الأخ الأكبر لنايف "استفزتني مقولة بن غوريون منذ أن كنت صغيراً وبقيت أنتظر الأعوام لمواجهتها وإثبات فشلها، وما إن بلغت الثلاثينيات من عمري، بدأت أنا وشقيقي بجمع كل ما يتعلق بقريتنا المحتلة نعليا داخل هذه المضافة بعد أن أعدنا بناءها بشكلٍ يطابق المضافة الأصلية التي هدمها الاحتلال الإسرائيلي بعدما وصفها الأجداد لنا".
ويضيف شاهين "زرنا جميع كبار العائلة الذين تبقوا على قيد الحياة، وأخبرناهم رغبتنا في حفظ تراث قريتنا للأجيال القادمة في المضافة التي أعددناها لاحتوائها، وبالصعوبة البالغة حصلنا على عدد من هذه القطع بعد عدة زيارات لعدم رغبتهم التفريط بها، وقمنا بشراء باقي القطع من أبناء القرية مقابل مبالغ مالية كبيرة شكل لنا توفيرها أكبر العقبات".
ورغم أن عددا من القطع القديمة التي تركها الأجداد تجاوز ثمنها 3000 دولار، إلا أن هذا المبلغ لم يثني الأخوين عن اقتنائها، إذ يبين "نايف" أنها بالنسبة إليهم لا تقدر بثمن ولا يمكنهم تركها لتضيع أو جراء محاولة الاحتلال شراءها عبر السماسرة وتزويرها ونسبها إلى تاريخه.
ويوضح الثلاثيني شاهين أن الجزء الأكبر من راتبهم الشهري يذهب لشراء هذه القطع التي يخشون ضياعها، ما وضعهم في ظروف اقتصادية صعبة طيلة فترة تشييد متحف قرية نعليا -كما يطلقون عليه-.
قطع نادرة
ولعل قطعة السلاح "البارودة" التي تتوسط المتحف أهم الشواهد التي يفتخر بها طارق وأخوه، حيث يبلغ عمرها أكثر من مئة عام.
يروي صاحب البشرة السمراء "طارق" ما رواه جده له، بأن قطعة السلاح اشتراها أجداده من دولة الأردن بعد أن باعوا حلي نسائهم لجمع ثمنها، وبعدها قاموا بتهريبها عبر القوافل العائدة إلى فلسطين لقتال العصابات الاسرائيلية بها، موضحاً أنها بالنسبة لهم من أعظم الشواهد التي تجعلهم يفخرون بأجدادهم الذين لم يفرطوا بأرضهم بسهولة.
كما ويحتوي المتحف على المذياع الوحيد الذي كان يجتمع حوله أهالي القرية قبل احتلالها لسماع الأخبار ومتابعة الأحداث التي سبقت النكبة والهجرة، بالإضافة إلى أن المتحف يحوي معظم مفاتيح العودة لأبواب منازل القرية المحتلة.
واستطاع والد "طارق ونايف" أن يجلب قطع فرن التدفئة الذي كان يتوسط مضافة مختار أهالي القرية، بعد أن قام بتهريب قطعه أثناء عمله في (إسرائيل)، قبل أكثر من 20 عاماً عبر حواجز الاحتلال، ليعيدوا ترميمه من جديد بنفس البناء الذي صوره لهم أجدادهم.
ويشمل المتحف معظم أدوات التراث التي كان الأجداد يستخدمونها قبل الهجرة، مثل طاحونة القمح والمهباج وبكارج القهوة وفوانيس الإضاءة وبابور الكاز وحلل الطهي وبراقع العرائس، وأدوات النجارة حيث كان يعمل جدهم نجاراً ومنها عصاه التي كان يتوكأ عليها، وغيرها من القطع القديمة التي زاد عددها عن ال 300 قطعة.
ويحلم الأخوان طارق ونايف بإعادة قطع ابائهم وأجدادهم التي يحتفظون بها، إلى قرية نعليا التي هجروا منها قسراً، ويثقون بأنهم قادرون على إعادة بناء مضافة الأجداد التي هدمها الاحتلال وسط القرية بعد تحريرها.
كما أن طموح الأخوين مستمر لجعل متحفهم مزاراً لترسيخ التراث الفلسطيني الذي يسعى الاحتلال لطمسه وتغييبه عن أذهان الأطفال والشباب.
ودعا الأخوان في نهاية الحديث، الجهات الرسمية والمؤسسات التي تختص بالتراث الفلسطيني بتبني جهودهم المتواصلة منذ عقد من الزمن حتى تبصر النور أمام كل من يشكك بتاريخ فلسطين وتراثها.