هي أخت الشهيد الذي أرعب المحتل، وبنت الشهيدة التي استشهدت على إثر الإضراب في خيمة الاعتصام تضامنًا مع ابنها، وأخت الأسير الذي انتصر على (إسرائيل) وأنجب من خلف القضبان، هو الذي سمعها عبر الأثير وهو حبيس الزنازين فدعمها بأن تكمل مسيرتها الإبداعية، وهو نفسه الذي زرع حب الوطن في قلبها وقت أن كان يربط العصبة على رأسها في الانتفاضة الأولى، الذي حرمها الاحتلال الإسرائيلي زيارته إلا مرات قليلة تحصى خلال 22 عامًا.
مشاعر الفخر والحزن ولوعة الفراق والشوق والتحدي والفرح والانتظار وحب الوطن، اجتمعت في قلب الفلسطينية النابلسية مي الزبن (34 عامًا) لتكون بذلك أول ميلودرامية في فلسطين.
تعود بنا مي عبر اتصال هاتفي إلى بدايات مشوارها الميلودرامي حين سمح لها الاحتلال بزيارة أخيها لدقائق بعد سنوات عجاف من الحرمان، فترى مشهدًا يكون بداية انطلاقة حياتها الميلودرامية حيث كان في قاعة الزيارة أسير يكلم والده من خلف الزجاج يطلب منه أن يخطب له فينفعل الأب ظنًا منه أن ابنه يملك أخبارًا عن صفقة قريبة وقتئذ، في مشهد مؤثر جدًا من الأب كما تقول مي، لتنتهي هذه الدقائق ويبدأ مشوارها الفني في تمثيل هذا المشهد الذي أثار شجونها بشكل درامي.
تقول مي للرسالة: "كان أول عمل لي هو تجسيد هذا الموقف بين الأب وابنه الأسير بطريقة مؤثرة وبمشاعر الفرح من الأب والحزن في آن واحد"".
وتشير إلى أن فن الميلودرامية هو فن مسرحي أدبي يجسد وجه الخير والشر ويقوم على تقمص عدة شخصيات وأدائها من الشخص نفسه ويقوم على المبالغة في الأداء التمثيلي من خلال انفعالات مثيرة، من أجل التأثير الشديد على المشاهد.
ردود الفعل الإيجابية التي لاقتها الزبن ووصفتها بال "المفاجأة" بعد تقديمها أول سكتش مسرح، اعتبرتها بمثابة الداعم لتطوير نفسها وتشجيعها على الاستمرار، فزوجها الأسير المحرر وأقاربها وأيضًا متابعو الإذاعة طلبوا أن تستمر وتقدم لهم مزيدًا من هذا الفن.
تقول الزبن والسعادة تنسرب من صوتها: "ليس هؤلاء فحسب، فقمري السجين "عمار" يتابعني داخل السجن هو والأسرى، ويشجعونني باستمرار، وينتظرونني بكل جديد ويعطونني تفاصيل عن حياتهم اليومية في الأسر كي أجسدها وأنقل معاناتهم للناس عبر سكتشات ميلودرامية".
قضايا عدة توجب على مي أن تهتم بها في فنها هذا، لا سيما وأنها فلسطينية ذاقت المعاناة بصنوفها كافة، كما ذاقتها بشكل خاص حين استشهاد أخيها وأمها، وأسر أخيها الآخر.
ليس الحزن فحسب الذي تجيده الميلو درامية الزبن، بل لديها القدرة على معالجة قضايا تربوية واجتماعية ولكنها تجد نفسها أكثر إبداعًا حين يتعلق السكتش المسرحي بالأسرى وقضاياهم، لأنها ترى أن قضية الأسرى لا ينصب عليها اهتمامًا كبيرًا من فن الدراما، الذي يعد أكثر الفنون تجسيدًا وإيصالًا لمعاناتهم.
كأن مي اعتادت التبسم بعين والتوجع بالعين الأخرى، حيث ضحكت عندما أخبرتنا أنها خلال تسجيلها سكتشًا مسرحيًا عن "الكنة والحماية" لم يستطع طاقم التصوير والمونتاج تمالك أنفسهم من الضحك على المشهد، لتتنهد بعدها وتخبرنا عن بكائهم أثناء سكتش مسرحي آخر وإخبارهم لها أنها أثرت بهم بشكل لا حد له لكثرة إتقانها في تجسيد الموقف وكأنها تعايشه حقيقة.
بلهجتها الفلسطينية الفلاحية البسيطة القريبة من المجتمع تشعر الزبن أن بإمكانها طرح أي قضية من قضايا الشعب الفلسطيني بأسلوب درامي سهل ممتع في عرض المشكلة وفي النهاية تقديم حلول حسب طبيعة الموضوع.
المتابع لأعمال الزبن يلاحظ أنها تبدع في دور "العجوز أم حمدان"، فهي الفلاحة المرحة والقوية التي توصل فكرتها بانتقاد ساخر وهادف في نفس الوقت، لتخبرنا مي أن أم حمدان هي جدتها الراحلة وقد كانت مثال المرأة الفلسطينية الصابرة التي اتخذتها قدوتها، حيث كانت حكمة السنين تتجذر في ذهنها، وحب الوطن مغروس في قلبها.
في سكتش مسرحي تجمع فيه الزبن أحفادها تتقمص فيه دور الجدة معلقة مفتاح العودة على جيدها مما يثير فضول أحفادها وسؤالهم عنه، مرتدية الثوب الفلسطيني المزركش، تحدثهم فيه عن حيفا وأزقتها وشجرها وبحرها وعن "أيام البلاد"، وأحفادها ينهالون عليها بالأسئلة في مشهد مؤثر، تظهر قدرة الزبن العالية على تغيير صوتها ومشاعرها بين الضحك والبكاء والغضب والحب.
لكل فنان أعمال يفضلها أكثر من غيرها وهكذا الحال عند مي فهي تشعر أن دور "أم الشهيد" الذي جسدته عند استقبالها خبر استشهاد ابنها في المخيم هو الأقرب لها، فيما يحتل سكتش "أول أيام العيد في سجن هداريم" مكانة لديها.
حب الاطلاع والقراءة وتطويرها لقدراتها في مجال الإعلام وقوة مفرداتها أهلها لأن تبدع في هذا الفن، بالإضافة إلى مؤهلات يجب أن تكون في الممثل الميلودرامي أبرزها القدرة على تغيير حالته الشعورية وتغيير صوته بما يتساوق مع الشخصية والحدث، والحالة الانفعالية وهذا يتطلب مجهودًا عاليًا وسرعة وتركيزًا ودقة، وإحساسًا قويًا حتى تكون قادرة على الانغماس بالحدث.
تطمح الزبن بتكوين فريق ممثلين ليتم نشر هذا الفن وعمل سكتشات مسرحية تمثيلية تخدم القضية الفلسطينية وتنقل هموم الفلسطينيين لا سيما الأسرى المنسيين كالأطفال والأسيرات الذين يجدون من المعاناة صنوفًا مخفية داخل الزنازين ، كما وتأمل أن يكون لها برنامج خاص بالميلودراما الوطنية ودراما الأسرى عبر إحدى الفضائيات.