مستحيل! أول كلمة نطقتُ بها في مكتبِ عمادة الكلية أمام البروفسور الجامعي حين توجّهتُ له كي يعبّئ توصية لي من الجامعة شرط مشاركتي في أحد الملتقيات الطلابية العالمية، دخل إلى طلب الالتحاق الإلكتروني، وصولًا إلى بند الدولة، بحثت وأستاذي عن اسم فلسطين أو كل ما يحملُ معناها "الأراضي الفلسطينية.. السلطة الفلسطينية.. أي شيء! فقد تعوّدنا نحن الفلسطينيين أن نقلّب قائمة الدول أكثر من مرة حتى نصل إلى البند الذي يقصدنا على اختلاف مسمياته، لكنني لم أجد! مستحيل! وجدتُ إسرائيل بسهولة، وهنا مستحيل مرة أخرى! لا يمكن لا يمكن لا يمكن.
أذكر كم مرة تعثّرت فيها في تثبيت تطبيق الواتساب لأني لم أدرج مفتاح إسرائيل، وكم مرة لم يتسن لي الولوج إلى كثير من الملتقيات الدراسية عبر الإنترنت لأني لم أجد فلسطين ووجدت إسرائيل، وكم مرة خسرتُ اشتراكًا أو حسابًا أو قناة اتصال، لأن المتصفح لم يقبل كلمة (Palestine)، هل آتي هذه المرة أمام نفس الصفقة لكن بوجهها المغري الأكبر، وأبدّل نفسي -فقط مرة واحدة- كي أكسب؟!
مستحيل! قد لا يكون الأمر بهذه القيمة أو بهذه الأهمية، فهو مجرّد طلب التحاق إلكتروني "صفحة إلكترونية"، وماوس/كيبورد/ شاشة، ليست ورقة موقّعة، ولا سلام يد، ولا قسيمة أمضي فيها على البيع. لكن لا ليسَ بهذا المنطق، اليوم قد يسهل عليّ وضع إسرائيل محل إقامتي كي "تمشي الأمور" وأكسب، غدًا سيسهل عليّ أن أضع بطاقة على صدري تعرّفني على أني من "إسرائيل"، فمن سيشفعُ لي إذا رفضت؟! لقد خضعتُ منذ البداية، وبعدها سأصدّق هذه الكذبة التي أجبرتُ أن أردّدها كي "تمشي الأمور".
أنا لا أريد أن "تمشي الأمور"، أريدُها أن تظلّ واقفة، في مقابلَ أن يعرف العالم أجمع أن هناك اسمٌ أسقط من القائمة وهو "فلسطين"، وأن هناكَ أحداً قضى عمره واقفًا أمام قوائمه يردّد اللعنة! ويشتم اللعبة التي تطبّق سياستها حتى في مناطق العالم الافتراضي. سأرفض، وأتعثر، وأتحسّس أثر الرضوض في جسدي، وأخسر، فتتأجّج في عروقي الرغبة والثورة والعصيان، فأعيش كما من تأججت في عروقهم، فأموتُ فلسطينية لم يُسجّل عليها يومًا أنها ضغطت على زر إسرائيل"، أو عرّفت جوالها عبر ترميز إسرائيل، أو على البعد الأعمق: اختارت أن تخضع فـ"تمشي الأمور".
هذه اللعبة أصبحت معروفة الآن، الأوجع! شاكلة اللعبة الجديدة التي لا أدري منذ متى بالضبط قد طرحت على الساحة! قلبتُ القائمة مرة أخرى نزلت: مصر، الأردن، السعودية، نزلت نزلت.. "قطاع غزة" وجدتها بندًا، ها: هناك فرصة! هكذا تصوّرت للوهلة الأولى.. لأجد أيضًا بند "الضفة الغربية" مدرجاً في طرفٍ بعيد حسبما رتبتها أبجدية القائمة، تبًّا من جديد! حتى هذا يقسّمنا! سياسة! سأعرف نفسي على أني من قطاع غزة، وسأحمل بطاقة تعريف باسمها لا باسم فلسطين! تبًا وكيف سأمثّل فلسطين؟! وكيف سأردد أمامهم: تحيا فلسطين حرة عربية؟! تحيا غزة! وهل سأجد قرينًا آخر لي من الضفة الغربية يمثّلها هو الآخر، وسأسلم عليه وأنافسه كما لو كنت أسلّم وأنافس قريني من الولايات المتحدة؟!
هذا العالم خطط لشيء بعيدٍ، وها هو يطبقه خطوة خطوة، بدءًا من شاشات الحاسب والهاتف، مرورًا بلقاءاته ومؤتمراته العلمية، انتهاءً بما هو أكبر من ذلك، ونحنُ ننساق وننجرّ و"نمشي الأمور"، ويحضر في ذهني الآن كيف كانت مؤسسات حقوق اللاجئين الفلسطينيين تستبدل اسمها على مر نشأتها، من مؤسسة دعم اللاجئ الفلسطيني إلى مؤسسة دعم اللاجئ، إلى مؤسسة إغاثة وتشغيل، حين تجاوزت كل حقوقنا في الأرض والوطن وتجاوزت قضيتنا لتصورنا على بطاقاتها أخيرًا على أننا ثلة فقراء ضعفاء على هوامش العالم، ونصدق ذلك! وننسى أننا نحن أصحاب "الحق والقوة"، وعلى مهلٍ ينصهر اسم فلسطين ويُنسى تدريجيًا مرّة يستبدل بقسميها "غزة والضفة" على أنهما أخف وطأة من "إسرائيل"، حتى إذا بهتت الحمِيّة فينا وخفت ضوء الثورة، مسحوا كل الأرقام والأسماء والإشارات، دون أي انتباه منا أو محاولة حتى، ثم "تمشي الأمور" لكن ليس كما أردناها، إنما كما خططوا لها، ودون أن ندرك.