بقلم: نادين ياغي
منسيةَ تحت علمٍ ملوّنٍ بشفقٍ فلسطينيّ، سقطتُ شهيدةً بين جيفِ غروبِ الحريّة وشروق العبودّيّة، مُحاطة بأغصانٍ زائفة من فرية تجري وراء خطوات كذبها هويتُ بطلةً بين منون الأرض ومولد الاستيطان.
شبتُ على ألحان نضال تُغنّيها الأشجار بحفيفها وتتراقص بها البراعم بأمل الازدهار، وكبرتُ تحت سماءٍ مليئةٍ بثقوبٍ لامعة تُضيء بشرارةِ أحلامٍ مستقبليّة، في الصّغر كنتُ طفلة ساذجة تتحمّسُ عند سماعِ أيّ قصّة يهمسُ بها الرّيحُ عند مرورهِ غريباً بين أزقّةِ حيّنا المُتشجّر، انقضت الأيام وحملتني إلى ينبوع الشّباب فشربتُ منه مرتويةً بقطراتٍ أعطتني قوّةً وطوّرتني إلى فتاةٍ مُزيّنةٍ بخَضار المشاعر، حوّطتني جزيئاتٌ من وعي مُكتمل وتغلّلتني أشلاءٌ من النّضوج، فباءت القصص تُروى بحروفٍ تأنّ بألمٍ وتجهشُ بحزنٍ لا يُحتمل، تحرّك بركانُ غضبي مُحتجّاً ورفض الخضوع لجبروتٍ إسرائيليٍّ مدعومٍ ببطشٍ غربيّ، تفجّرت وطنيّتي الفلسطينيّة بجنون تجذّر أمّي في الأرض، وتبلورَ كياني العربيّ بظلالٍ كانت تحتمي تحتها أرواحٌ ضالّة متشرّدة.
عزمتُ على خوض معركةٍ مع محدوديّةِ ذاتي من أجل تحقيق هدفٍ مستحيل، هدف مرسوم بريشةِ الأمنيات للوصول إلى عنصرٍ مفقود، ولكنّي عجزتُ وكبرتُ وشختُ ولا تزالُ أليافي تمتصّ الأكسجين و تستبدله بثاني أكسيد كربونٍ لا ينفع ولكن يضرّ، شعرتُ بأنّي وحشٌ من مخلوقات الزمان، مُقيّدةٌ على أغصانٍ لا ترحم أعطتني جسداً رثّاً يشعّ بالضّعف والرّقّة، كرهتُ فكرةَ وجودي معلّقةً على شجرة أمّي وصلّيتُ للتّحرّر، ويا ليتني لم أتحرّر، فحرّيّتي فتحت الأبوابَ لعبوديّتي وتخلّصي من أغصان الصّمودِ قيّدتني بسلاسل سرمديّة.
في يومٍ من أيّامٍ فقدتُ الإحساس بها في رحلتي التّشاؤميّة التي انعطفت إلى طريق العمى والكراهيّة، توقّفت الرّياحُ عن سرد الحكايات البعيدة وساد حيّنا سكوتاً ملغوماً بنوايا خفيّة، أحسست بخوفٍ يجري صارخاً بين الأغصان، يدوي بمدفعِ التّحذير طالباً الاستعداد، قهقهت صوتُ ضحكاتي في صدى الصّمت وعدتُ أصلّي خاشعةً لإلهٍ اختار تصنيف كلماتي تحت عنوان اللاّ مبالاة، فجأة سقطتُ، كيف؟ متى؟ أين؟ لا أدري ولكن سقطت، سقطتُ إلى هاويتي وانحدرتُ إلى كفني التّرابيّ، وجدتُ نفسي معزولةً على أرضٍ لُوّثت بآثارٍ استعماريّة، نظرتُ خلفي آملةً أن أُبصر شجرة الأمّ فلم أستطع، إذ أنّ غولاً أسوداً كبير كان يقتلعها بأنامل لا تعرفُ الرّحمة ولم تُربَّ على مفهوم الإنسانيّة، شاهدتُ أمّي وأرضي وكياني يُدمّروا ويُنتزعوا من جذورهم، حينها سُجّلت قصّة أخرى من قصص الرّياح الّتي لا تنتهي، حينها أصبحت صلواتي منقلبةً ضدّي، واستطعتُ الوصول إلى حقيقةٍ مرّة.
ها أنا في قمّة العجز، أضعف من أيّ وقتٍ مضى، ليس لأنّي رقيقةّ ضعيفةّ كما كنت أخال نفسي، بل لأنّي هُجّرتُ إلى مكان لا يعكسُ سوى صورتي وحدي، لأنّي تفرّقتُ عمن مصدر قوّتي، عن أمّي وإخواني، تفرّقنا وانكسرت حلقةُ وحدتنا، وفي ذلك كلّه ما زلتُ فخورة معتزّة، فأنا لستُ أيّ ورقة، أنا ورقةٌ من أوراق فلسطين وأمّي شجرة زيتونة مباركة، وإخواني مناضلون صامدون لا يهابون الوحدة ولا التّشرّد ولا أبوهم الغول، فأنا كنتُ وما أزال وسأبقى جزءاً لا يتجزّء من الوطن، بالرّغم من تشرّدي وبعدي عن الأحبّة إلاّ أنّي سأدفن في ركن ما من أركان فلسطين، ولو كان البعض ينظرون إلى هذا الرّكن على أنّه إسرائيل، فما هي إسرائيل لولا أنّها بُنيت على أرض فلسطين؟!.