تجمهر عشرات الطلبة بعد انتهاء الدوام الدراسي في إحدى مدارس الابتدائية، حول عربة مهترئة يقف أمامها رجل أربعيني يُقلب بمجروده بعض الطحل والكفتة التي تجمع عليها بعض الغبار، فيما يقابل عربته مجمع للقمامة على رصيف وسط شارع عام شمال غزة.
ومع تعامد قرص الشمس مشيرة لبلوغ الساعة الثانية عشرة ظهراً، كان الرجل ذو البشرة القمحية يقف أمام باب المدرسة كعادته يومياً منتظرا زبائنه الصغار ليبيعهم السندويشات التي وضع داخلها وجبة دسمة من المرض بـ"نصف شيكل".
الحال كان مشابها تماما عند أبواب مدرسة أخرى وسط مدينة غزة، عندما كان بائع ثلاثيني يضع السكاكر وأكياس الشيبس والاندومي وسندوتشات الفلافل والمرتديلا على عربته التي تفتقر لأدنى مقومات النظافة، فيما تقابله عربة البراد التي كان يتطاير فوقها الذُباب.
خبير تغذية: الأطعمة المكشوفة سبب التسمم وفقر الدم
تلك المشاهد كانت جزءا مما رأيناه، قبل أن نقابل سيدة تبدو في الخمسين من العمر، كانت تتخذ من الرصيف متكئا لعرض جهاز "آيباد" وبجانبه بعض الحلوى منتهية الصلاحية والألعاب الصغيرة، ثم تبدأ بالسحب على الأرقام التي يسحبها الطلبة الذين تدافعوا أمامها وفضلوا الاحتفاظ بمصروفهم اليومي طمعا في ربح الجهاز، وفي النهاية يُغادر الجميع بخفي حنين.
عدة جولات ميدانية أجراها معد التحقيق على ما يزيد عن أربعين مدرسة في مناطق متفرقة بقطاع غزة، كانت كفيلة بملاحظة وجود عشرات الباعة المتجولين الذين يبيعون الأطعمة المكشوفة والمغلفة بالأمراض للطلبة، فيما يمارس آخرون النصب والاحتيال على الأطفال في المرحلة الأساسية.
انعكاسات خطيرة
وتفتقر أغلب عربات الأطعمة للباعة أمام المدارس -والتي اتخذتها الرسالة كعينة- لأدنى معايير النظافة والشروط الصحية، الأمر الذي قد ينعكس بالسلب على صحة الطلبة ويسبب لهم الأمراض.
وأثبتت دراسة علمية صادرة عن وزارة الصحة إصابة أعداد كبيرة من طلبة المدارس خاصة المرحلة الأساسية (من الصف الأول إلى السادس) بمرض فقر الدم "انيميا".
وأرجعت الدراسة أسباب إصابة الطلبة الذين تتراوح أعمارهم ما بين (6-10) أعوام بهذا المرض إلى سوء التغذية التي يتلقاها الطلبة نتيجة عدم تناولهم وجبة الإفطار الرئيسية واعتمادهم على المقصف والباعة المتجولين في التغذية.
الصحة المدرسية: لا نملك أي سلطة قانونية على الباعة المتجولين أمام أبواب المدارس
ويؤكد الدكتور عدلي سكيك استشاري التغذية والصحة العامة، أن الأطعمة المكشوفة غير صحية وتعرض الطلبة للإصابة بالتسمم وفقر الدم والأمراض السرطانية على المدى البعيد.
ويوضح سكيك في حديثه لـ"الرسالة" أن استمرار الباعة المتجولين في بيع بضاعتهم المكشوفة والمنتهية الصلاحية وحتى (الشبيس والاندومي) يؤثر بشكل سلبي على صحة الطلبة؛ كونها تحتوي على بعض المواد المشبعة بالدهون والتي تسبب أمراض القلب وانسداد الشرايين والكوليسترول الضار الذي يتسرب للجسم ويسبب الجلطات والسكات الدماغية.
ويضيف "الطلبة في مرحلة المدرسة يحتاجون للنمو ويجب التركيز على البروتينات أكثر من الكربوهيدرات، لكن غالبية الأطعمة التي تباع لهم تفتقر للفائدة الغذائية".
مخالفة القوانين
استدعى ذلك معد التحقيق إلى طرق أبواب الجهات المختصة والمسؤولة عن متابعة الأطعمة والمواد الغذائية التي تُباع للطلبة على أبواب المدارس.
وبالرجوع إلى قانون الصحة العام رقم (20) لسنة 2004م فإن المادة الثانية منه تنص على ضرورة ترخيص الأعمال والحرف والصناعات الغذائية وأماكن بيعها ومراقبتها، كما يحظر تداول الأغذية الخاصة أو الإعلان عنها إلا بعد تسجيلها والحصول على تراخيص بتداولها من الجهات المسؤولة وفق المادة (22) في القانون.
وتؤكد د. سمر النخالة مديرة دائرة الأغذية في وزارة الصحة بغزة، أن طلبة المدارس مغرمون في شراء الحلوى والسكاكر والأطعمة التي يبيعها المتجولون، مشددة على أن تعرضها لأشعة الشمس والأتربة وعوادم السيارات يجعلها ملوثة وتتسبب بإصابتهم بالأمراض.
وتشير النخالة لـ"الرسالة" إلى أن الباعة المتجولين على أبواب المدارس مصدر للأمراض، ويقدمون أطعمة عبارة عن سعرات حرارية بدون أي قيمة غذائية، مقرة بعدم وجود أي رقابة عليها.
وتلفت إلى أن متابعة هؤلاء الباعة والرقابة عليهم من مسؤولية الصحة المدرسية في وزارة التربية والتعليم ووزارة الاقتصاد والبلديات والطب الوقائي بوزارة الصحة.
وحول دورهم في هذا الأمر تؤكد النخالة أن دائرة التغذية التابعة لإدارتها تتواصل مع دائرة التغذية المدرسية بوزارة التربية والتعليم لإرشادهم إلى المواد والأطعمة المفيدة للطلبة، مشددة على ضرورة إصدار قرار بمنع بيع هذه المواد الضارة خارج المدرسة وداخلها، والاعتماد على البدائل الصحية الأخرى.
الصحة: الباعة المتجولون مصدر للأمراض المعدية ويقدمون أطعمة بلا قيمة غذائية
وتنوه إلى ضرورة زيادة التوعية لدى الطلبة الذين باتوا لا يتناولون الأطعمة المفيدة كالفاكهة والأجبان والألبان ذات القيمة الغذائية.
دورنا تربوي
وبالانتقال إلى مسؤول المقاصف في وزارة التربية والتعليم بغزة فايز السرحي، فإنه يقول: إن جل عملهم ينصب على متابعة المقاصف ووضع الشروط والمعايير الصحية لها، داخل أسوار المدارس دون الباعة خارجها".
ويؤكد السرحي لـ"الرسالة" أنهم يحاولون توعية الطلبة عبر النشرات واللجان المدرسية وعقد اللقاءات مع أولياء أمور الطلبة من خلال اللجنة الصحية لتحذيرهم من شراء الأطعمة المكشوفة وحثهم على الشراء من المقاصف التي تقدم مواد غذائية تخضع للمعايير الصحية التي يضعونها خلال العام.
ويتابع " دائما ندعو البلديات والجهات المسؤولة إلى متابعة ومنع الباعة المتجولين من الوقوف أمام أبواب المدارس لكن الكثير يعترض ويعتبره قطعا للأرزاق، لذلك نحاول العمل بشكل قانوني عبر التوعية داخل المدرسة فقط".
وبين السرحي أن الجهات المسؤولة لا تتابع الباعة إلا بعد تقديم الشكوى، مشددا على ضرورة وضع قوانين وحل جذري للبائع المتجول وفرض شروط صحية ومعايير سليمة.
معد التحقيق حمل هذه القضية ووضعها على طاولة مسؤول الصحة المدرسية في وزارة التربية والتعليم بغزة د. تيسير الشرفا، الذي قال إنهم لا يملكون أي سلطة قانونية على الباعة المتجولين أمام أبواب المدارس، منوها إلى أن وزارة الاقتصاد والبلدية مخولة بمتابعتهم.
ويوضح الشرفا أن دورهم يكمن في نصح الطلاب وتوجيههم وتحذيرهم من الشراء من الباعة المتجولين، مردفا " نحن لا نستطيع منع أي بيع خارج إطار المدرسة، وتركيزنا على الطلاب فقط ولا نحتك بالباعة لأننا جهة تربوية سلطتنا على ما هو موجود داخل المدرسة، من ناحية تربوية وتعليمية فقط".
ويعتبر مسؤول الصحة المدرسية أن المقصف ضمن المنظومة التعليمية للمدرسة لذلك توليه إدارته الاهتمام وتتابعه من ناحية النظافة الشخصية والسلامة الصحية؛ كونه يشكل بوابة رئيسية بالنسبة للطلاب داخل المدرسة.
ويلفت الشرفا إلى أنهم يتابعون صلاحية الأغذية داخل المقاصف بشكل يومي ويرشدون بتوعية وتثقيف صحي أصحاب المقاصف على ما هو المسموح والمفيد للطالب.
ناظر المدرسة مسؤول
وعلى وقع تبادل الاتهامات والتهرب من المسؤوليات، انتقلنا إلى مدير عام حماية المستهلك في وزارة الاقتصاد، حيث اعتبر د. رائد الجزار أن تحميل مسؤولية متابعة الباعة المتجولين على أبواب المدارس لوزارته "ضرب من الخيال"، محملا مسؤولية هذا الأمر لناظر المدرسة.
ويضيف الجزار في حديثه لـ"الرسالة" أنهم دائما يخاطبون مدراء المدارس عبر رسائل توجيهية يحثوهم فيها على متابعة الباعة من خلال معلم الصحة المدرسية؛ كون أن عدد طواقمهم قليل جداً وعلى عاتقهم مسؤوليات أخرى.
الطب الوقائي: قلة الإمكانيات والكادر البشري تعيق عملنا وتصعب مراقبة الباعة المتجولين
ويوضح أنهم على استعداد للاستجابة لأي شكوى يقدمها لهم مدراء المدارس حول هذا الأمر، مردفاً " من أول العام الدراسي وحتى اللحظة لم يبلغنا مدراء المدارس بأي شكوى في هذا الخصوص".
ويؤكد الجزار أنهم يتابعون الباعة المتجولين من خلال جولات دورية، لكنه يرجع ضعف الرقابة إلى محدودية عدد طواقم مفتشيه، وأن مسؤولياتهم كبيرة كمتابعة الأسواق والمطاعم والمحلات التجارية وغيرها.
ولا يختلف الأمر كثيرا لدى دائرة الطب الوقائي ومراقبة الأغذية بوزارة الصحة، وفق ما يبرر مديرها زكي مدوخ، الذي قال إن قلة الإمكانيات ونقص الكادر البشري يعيق عملهم ويحد من جولاتهم التفتيشية اليومية على البائعين.
ويضيف مدوخ أنهم يتلقون بشكل يومي ما بين 10-15 شكوى؛ لكن قلة كادر التفتيش لديهم يفقدهم السيطرة على هذا الأمر، مبينا أنهم يحاولون فرض الشروط الصحية على هؤلاء الباعة وإيقاف المخالفين.
ويتابع " في الفترة الأخيرة تم إيقاف بائع طحل ومنعه من العمل على أبواب أحد المدارس شمال غزة لافتقار عربته للنظافة وجرى التعامل معه حسب الاجراءات القانونية وإمهاله فترة لتسوية أوضاعه".
ويؤكد مدوخ أنهم يعاملون الباعة المتجولين معاملة خاصة بحكم أنهم من طبقة المحتاجين والفقراء في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة والحصار، إلا أنهم يوقفون من يخالف الشروط الصحية منهم.
ويكمل " لا نبحث عن الجودة المثالية بقدر ما نحاول البحث عن الحد الأدنى من الجودة في ظل الأوضاع الصعبة والحصار، لأن التدقيق على هذا الأمر سيجبرنا على إيقاف الكثيرين عن العمل".
مواد فاسدة
ويلقي رئيس قسم مراقبة الأغذية في بلدية غزة رشاد عيد، بالمسؤولية على إدارة الصحة المدرسية في وزارة الصحة، معتبرا اياها المسؤولة بشكل كامل على ما يدور داخل المدارس وعلى أبوابها.
بلدية غزة: نتلف شهرياً من 20 -30 طنا من المواد الغذائية الفاسدة داخل المدينة
ويؤكد عيد أنهم يبذلون جهودهم لكن يبقى دورهم محدودا بنطاق معين، لأن لديهم خمسة مفتشين فقط يراقبون الأسواق ومئات المصانع وآلاف الحرف ومحلات المواد الغذائية، مشددا على ضرورة تعاون المواطن لمساعدتهم في عملهم.
ويضيف " لا أستطيع أن أضع مفتشا على باب كل مدرسة، ونحن نقوم بدورنا في التوعية ونعمل دورات وورشات عمل لكن الدور يقع على عاتق المواطن الذي يجب أن يساعدنا ولا يتهاون مع الباعة".
ويشدد عيد على أن طواقمهم تتحرك على الفور في حال تلقيهم أي شكوى بهذا الأمر، مشيرا إلى أنهم يتلفون شهريا بين الـ 20 لـ30 طن من المواد الغذائية الفاسدة داخل مدينة غزة.
ويشير إلى أنهم يتعاملون مع جميع الباعة المتجولين بنفس المعيار وهو ضرورة الالتزام بالشروط الصحية وعدم تعرض الأغذية للشمس وأن تكون صالحة الاستخدام وسارية المفعول وفي حالة وجود أي مشكلة فيها على الفور نتلفها ونأخذ الإجراءات القانونية ضد البائع.
ويلفت عيد إلى أنهم يضبطون حالة بشكل أسبوعي ويحولون حالتين إلى محاكم البلدية من الباعة المتجولين المخالفين.
لا ينطبق عليهم القانون
وينفي شادي حلس مدير دائرة التفتيش في وزارة العمل، أن يكون لوزارته أي علاقة أو متابعة للباعة المتجولين، مرجعا ذلك إلى عدم انطباق القانون عليهم.
ويوضح حلس لـ"الرسالة" أن قانون العمل سنة 2000 ينطبق فقط على أصحاب المنشآت والعمال "وهؤلاء لا ينطبق عليهم القانون كونهم ليسوا أصحاب منشآت، ونحن ليس لنا علاقة فيهم"، على حد قوله.
العمل: لا علاقة لنا بالباعة المتجولين كون أن قانون العمل لا ينطبق عليهم
وبالرجوع إلى خبير التغذية سكيك فإنه ينصح بضرورة التركيز على وجبة الافطار للطلبة قبل خروجهم من البيت وتقديم المواد الغذائية المفيدة لهم كالحليب والبيض والأجبان إلى جانب إعطائهم بعض الفاكهة، وتحذيرهم من شراء الأطعمة المكشوفة والضارة لصحتهم.
وفي نهاية المطاف فإن المطلوب متابعة دورية ومشتركة للباعة المتجولين على أبواب المدارس ومنع بيع وتداول الأطعمة المكشوفة والمعرضة لأشعة الشمس وحتى التي قارب تاريخ صلاحيتها على الانتهاء.