"حيكون هادا آخر رمضان بغياب أبوكم" مضت السنون والأيام وما فتئت أمها تردد على مسامعها وإخوتها هذه العبارة، لتأتي رمضانات كثيرة والعام يتلوه العام، وما زالوا جميعًا ينظرون إلى ذاك المكان الفارغ والطبق الذي ينتظر غائبه على مائدة الإفطار، ليقتاتوا على الأمل رغم الغصة والألم.
بيسان (20 عامًا) الابنة الصغرى للأسير عمار الزبن، خرجت إلى الحياة ولم ترَ فيها أباها، فهي التي عاشت الحرمان مذ كانت جنينًا في بطن أمها، ليكون عمرها بعمر الوجع.
كأن الاحتلال أراد أن يعاقبها على شدة حماستها، ولم يكتفِ بتغييب أبيها عن ناظريها، فقد اعتقدت أن تصريح الزيارة جاء في الوقت المناسب بعد ثلاث سنوات عجاف من اللهفة للقياه، فانتظرت دقيقة بدقيقة وهي تنسج بخيالها عبارات التهاني بحلول رمضان، وحال قلبها "وأخيرًا حأقول لبابا كل عام وانت بخير"، لتُفاجَأ بعد أيام أنها منعت من زيارته بسبب التحاقه بالأسرى الذين يخوضون معركة الكرامة.
وتصف بيسان "للرسالة" استقبال رمضان بتنهيدة حارقة نفثتها عبر الهاتف وكأنها قطعت أميالًا: "رمضان جميل، لكن غياب أبي يجعله من أصعب الأيام التي تمر علينا، خاصة أول يوم فلا أحد فينا يأكل شيئًا".
مكان فارغ
ولا يختلف الأمر عند "شوق" (17 عامًا) ابنة الأسير هشام حرارة، التي أوصلت لأبيها "كل رمضان وانت بخير" مع أمها، فهي الممنوعة من زيارته بسبب سنها، ففي بيوت الأسرى تتعدد الأوجاع والغياب واحد.
شوق التي روت ذكريات تجهيزات رمضان والطقوس جميعها التي عاشتها مع أبيها بسعادة بادية على وجهها، تبكي بعدها حين أخبرت "الرسالة" أنها في أول أيام رمضان نادت عليه وقت السحور، ظنًا منها أنه سيتصدر المائدة كما اعتادت كل عام، لكن سرعان ما اصطدمت بالغياب فأصيبت بالخيبة، فراحت تردد "يا باب السجن ريتك خرابِي.. باعدت بيني وبين أحبابي".
ليس هذا فحسب، فحرارة وبعد أعوام من اعتقال أبيها ما تزال تضع طبقًا له مع أطباقهم، ليبقى فارغًا كما قلوبهم تمامًا إلا من الألم.
طقوس منقوصة
جمال أجواء رمضان بروحانيته واجتماعياته تدركها أم علي، زوجة الأسير إبراهيم حامد، كما تدرك حجم الفجوة التي سببها غياب زوجها للعام ال12 على التوالي.
تتحلق "أم علي" وعائلتها مائدة الإفطار، فلا يكادون يتوقفون عن الحديث عنه، وهم يسردون ذكرياتهم معه، في محاولة منهم لتخفيف وطأة الغياب على نفوسهم، كما قالت للرسالة.
طقوس رمضانية كثيرة يفتقدون فيها زوجها، سيما حين يصطفون للصلاة جماعة، وهم الذين اعتادوا أن يكون إمامَهم.
بصوت مرتجف: "حيصوموا سبعين يوم"، مشيرة إلى أيام الإضراب الأربعين التي سبقت رمضان، "فالألم هذا العام كان كبيرًا علينا وعلى ذوي الأسرى، حين استقبلوا هذا العام وهم مضربون عن الطعام، لأن صيامهم مضاعف وجهدهم مضاعف"، حسب قولها
بنبرة تحدٍ أجمع عليها كل الذين تحدثت إليهم "الرسالة" أنهوا بها حديثهم، أن هذه الآلام لم تزدهم إلا صلابة وقوة، متيقنين أن الأسرى سيتحررون قريبًا في صفقة مشرفة.