للكاتب العراقي محمد علوان جبر
الممر المؤدي الى العيادة، لم يكن مضاءا مثل الصالة الصغيرة، حيث شعت نيونات كثيرة توزعت على اطراف الصالة التي يتوسطها مكتب تشغله سكرتيرة جميلة، بدت تحت الأضواء بشعرها المصبوغ باللون الاشقر المتفاوت الحدة تشبه دمية “باربي” الشهيرة. كانت تجلس قبالتي ثلاث نسوة وصبي صغير.
بعد أن اشرت إسمي لدى السكرتيرة التي تعاملت مع الأمر بشكل آلي، بدا التبرم يتصاعد في داخلي، رغم اني لم أمض أكثر من بضعة دقائق في العيادة، وقبل أن أفكر في تمضية قليلا من الوقت خارج المكان، لتدخين سيكارة أو تناول قدح من الشاي الساخن، لكن خدرا بسيطا في ساقي مصحوب بقليل من الألم اقعدني في مكاني، وبدأت في تأمل محتويات الصالة، مقرراً أن أمارس لعبتي الأثيرة إلى نفسي، لعبة “الإستكشاف” والتي أمارسها كلما أجد نفسي محشورا في تفاصيل الإنتظارات بغية تمضية الوقت والتخلص من الملل.
بدأتُ في النسوة الثلاث اللواتي شغلنَ مقاعد بلاستيكية أمامي مباشرةً، انهيت تأملي للمرأة الاولى سريعا، لأن السكرتيرة اشارة اليها ناحية الباب المؤدي الى غرفة الطبيب ، انصرفت حواسي نحو المرأة الجالسة في الوسط، شكلها جعلني أتحمس باللعبة التي امارسها دائما، بدأت في محاولة معرفة عمرها، هذه اللعبة، دائما تنجح معي، إذ أستطيع أن أخمن عمر الشخص الذي اراه، وخاصة النساء، لأني أعد نفسي خبيرا مختصا بهن وبأعمارهن مهما حاولن اخفائه بشتى الوسائل، كانت المرأة ترتدي ملابس بسيطة، وتمسك بيدها مسبحة، منظر المسبحة لم يكن يتلائم مع شكلها، إذ بدت تكويرات شعرها واضحة تحت حجاب نسائي بسيط، وجهها المستطيل تتوسطه عينان ملونتان مهيمنتان، وببريق أضفى على شكلها مزيدا من الفتوة، رغم انها ذات فم كبير يعلوه أنف متوسط، خمنت منذ البداية انها في الخامسة والأربعين من عمرها.
وفي انغماري في ممارسة شيء أتقنه جيدا، متخيلا شكلها قبل عشرة أعوام، شكلاً فاحت منه رائحة إحتراق المدن وبداية السقوط المدوي للصنم حيث عمرها كان في الخامسة والثلاثين، وبعد إزاحة الأمر عميقا بشكله المعاكس نحو عشرة أعوام أخرى، في الخامسة والعشرين من العمر، اذن هنا في هذه السن يستحق الأمر التوقف قليلا، هل يبدو عليها أنها قد أنهت دراستها الجامعية. في كلا الحالين سواء أنهت دراستها أو لم تتمها، في هذا العمر كم كانت تبدو فتية، وكم كان الألق في عينيها عميقاً ومهيمناً، َمر الأمر بيسر، إذن سأمضي قدما نحو عشرة أخرى.
حيث الحرب الطويلة قائمة مع جارتنا المثيرة للجدل، يومها كانت في الخامسة عشر من عمرها، والحرب تنفث روائحها وهوسها وتفاصيلها الغريبة على الجميع وهيمنة صور التوابيت المشدودة على سطوح سيارات “الكراون” الملونة بالابيض والبرتقالي. الجثث التي تعود الى بيوتها وهي ملفوفة برايات الوطن الزنخة، قبل أن أعود معها إلى عمر الخمسة اعوام، بدأت السكرتيرة تنادي بأسم فرح، اعادت الأسم لمرات لم تند من المرأتين أي إشارة الى سماعهن الإسم لكن السكرتيرة أشارت اليها بيدها فعرفت انها المعنية، استغربت من بقائها جالسة في مكانها وتجاهلها لإشارة السكرتيرة التي نادت بإسمها لمرات، كان يبدو عليها كأنها كانت منغمرة معي في نفس اللعبة ولم تكن تتمنى أن نقطعها بسرعة، لكنها نهضت أخيرا وسارت بخطوات بطيئة نحو باب غرفة الطبيب، وقبل ان تجتاز الباب، ادارت رأسها ناحيتي، رأيت بوضوح إبتسامة ذات مغزى ولكن لطفلة في الخامسة من عمرها.
- الصورة للمصور الفلسطيني: فادي ثابت