احتفظ بذكريات أمه، بأثوابها المطرزة وأدواتها التراثية، كما احتفظ بمكحلة جدته التي كانت تسميها "الميل أو المرواد" فقد عُرف بأنه رفيقها في الفرح والترح، وكانت تقول له دائمًا: "حبيبي، يا مرواد عيني"، قاصدة بذلك أنه يسكن عينيها لحبها الشديد له.
كان يؤمن أن الفكرة لا تموت، بل تنتقل من جيل إلى جيل، كما قال غسان كنفاني يومًا: "تسقطُ الأجسادُ.. لا الفكرة"، فحرص عليها ألا تتلاشى مع الأيام، وأراد لها أن تعيش وألا ينسى الصغار حين يموت الكبار.
عبد الرحيم داوود كبها (64 عامًا) من قرية أم القطف الفلسطينية في لواء حيفا، والتي يصل عمرها 130 عامًا وتعداد سكانها 1000 نسمة تقريبًا، يرى أن هناك تجانسًا بين كلمة التراب والتراث، وأن من تشبث بترابه أثبت تراثه.
"متحف أمي"
بعد وفاة والدته، أراد "كبها" أن يحول منزلها القديم الذي يعني له الكثير كما أخبر "الرسالة" إلى متحف للأدوات التراثية، حين لاحظ رفض النسوة العيش فيه، وضيقهن من وجود أدوات قديمة في البيت وسعيهن للتخلص منها برميها، فجعل من ذكرياته مع والدته موجودات تراثية بإنشائه متحفًا أسماه "متحف أمي"، ليرسم بهذه الأدوات صورة متكاملة عن حياة الفلسطيني قديمًا.
من غزة إلى حيفا، اخترقت "الرسالة" الحواجز والحدود، وطلبت من "كبها" مرافقتها بجولة في "متحف أمي" للحديث عن الأدوات التراثية الفلسطينية التي استطاع تجميعها بعد صعوبات كبيرة.
وعبر اتصال هاتفي وبحماسة بادية على صوته، بدأ "كبها" الحديث عن زاوية البيادر وهي أول ما يصادف المتجول في المتحف، حيث الغربال والكربالة والمذراة، وكل ما كان يلزم الفلاح الفلسطيني في رحلة حبة القمح من الأرض حتى الطابون.
على الحائط أعلى زاوية البيادر، علق "كبها" محراثًا كبير الحجم، لما له من أهمية كبيرة في موسم الحصاد، أجزاؤه من الخشب والمعدن، حوله أدوات زراعية كالنير والكابوسة والكردانة والناطح والقلادة.
أسباب كثيرة جعلت زاوية البيادر هي الأقرب إلى قلب "كبها"، فهذه الأدوات كما يقول هي أساس الحياة قديمًا لتعلقها بكسب لقمة العيش التي كان أكثر ما يحرص عليه الفلسطيني، إضافة إلى أن موسم الحصاد زاخر بالأحداث ومليء بالمراحل التي ما انفكت تترك ذاكرته.
"بتذكرني بأمي" بصوت منخفض حزين حكى "كبها" هذه الكلمات حين السؤال عن السبب الرئيس في حبه الشديد لأدوات هذه الزاوية حتى جعلها تتصدر أولى زوايا المتحف، ثم سرعان ما انطلق يحدث "الرسالة" عن موسم الحصاد بصوت فرِح.
يقول "كبها": " كنا نبدأ الموسم من بداية شهر أيار وحتى نهاية شهر أب مكرسين الجهود لننتهي قبل سقوط المطر"، ففي المثل الشعبي: "في أيار، احمل منجلك وغارْ".
ويكمل حديثه دون السماح لأي كلام آخر أن يقطع عليه شريط ذكرياته: "كنا نجلس على البيدر نبدأ بالحصاد ثم ننقل الحبوب من الحقل إلى البيدر، يتم درسه هناك بالنروج "لوح الدراس"، ثم نصفي القمح وتنقل أمي الحبوب إلى "الخابية" وهي المخزن في البيت، وقبل أن ندخله إلى البيت كنا نخرج "العشر" منه زكاة لفقراء القرية".
طلبت مراسلة "الرسالة" أن يسمعها "كبها" بعضًا من أهازيج الحصاد في قريته أم القطف، فهي من "ريحة البلاد" التي هاجر منها أجدادها، فراح يتغنى "الله عليك يا لبن شوالي.. يا لحم هروش مع ورق دوالي"، " زَرِعنا واحنا صحابه.. بالمناجل ما نهابه...زَرِعنا دنا عنـوقه.. بالمناجل والله لنسوقه"، " منجلي يا بو ديّـه .. يا اللي إلك في الزرع هَيه...مـنجـلي يا بو رزة.. وأنـا جـبـتـك مـن غــزة".
في الليل كان يسهر وإخوته برفقة أمهم تسرد لهم القصص وتقلب معهم ذكريات صباها، وينامون على القش، حتى يأتي الصبح ويجلسون تحت الشمس وقت الضحوة قبل أن ينطلقوا إلى الحصاد ثانية كما يحكي ل "الرسالة".
جولة رغم الحواجز
ينتقل "كبها" للحديث عن زاوية الخيل التي تجاور زاوية البيادر، والتي تشاطرها في الجمال "فالخيل في نواصيها الخير" كما يقول، مضيفًا: "استخدم الفلسطيني الخيل كوسيلة نقل في ترحاله، كما استخدمها في حراثة الأرض".
أدوات كثيرة للخيل كانت تلزم الفلسطيني لتسهيل ركوب الخيل وامتطائه، كلها أراد "كبها" أن تكون حاضرة في متحفه هذا، كالسرج الذي يصنع من جلود متينة وبألوان جميلة، والمعرقة والمرشحة التي كانت تمتص عرق الحصان، والشيكمة والحذاء واللجام واللبادة.
على الجهة المقابلة، تزين الأثواب الفلسطينية المطرزة الحائط بشكل يلفت أنظار من أراد التجوال في المتحف، كما صندوق العروس المطرز الذي وضعه "كبها" في مكان واضح.
بلهجته الفلاحية يقول "كبها" للرسالة: "أدوات العرس الفلسطيني لها مكانة في قلبي، فهو يتميز بطقوسه، وقد كان يحييه شعبنا في أحلك الظروف والأيام".
جمًّع "كبها" أثواب أمه وأدوات زينتها، كما وضع كل ما كان يلزم العروس الفلسطينية لإحياء عرسها، كالطبلة ومستلزمات العرس والصندوق التي كانت تضع فيه جهازها البسيط عند انتقالها إلى بيت زوجها.
صور ووثائق
بصوت حزين يحكي "كبها" أنه لم ينس أن يجعل لصور أمه وأبيه وأجداده مكانًا في المتحف، لتبقى صورهم حاضرة أمام الأنظار كما في القلوب.
وسط المتحف وضع "كبها" على طاولة كبيرة وثائق قديمة، منها وثائق مضحكة ومنها خطيرة وكروت أفراح فيها دعوة للولائم في قرية سمخ على شاطئ بحيرة طبريا لزفاف أبنائهم.
يحدث "الرسالة" عن وثيقة موجودة في المتحف وهي رسالة بعثها عبد القادر الحسيني قبل وفاته بثلاثة أيام إلى رئيس الجامعة العربية آنذاك، بتاريخ (6-4-1948) كتب فيها: "قطعتم الذخيرة عن جنودي، وهم في عز انتصاراتهم، وأنا أحملكم المسؤولية".
"أنا أرى المتحف مشروع حياة" قطع "كبها" جولته بين زوايا المتحف بهذه العبارة، مضيفًا: "ومن خلال المتحف يمكن أن نلفت أنظار الجيل الجديد إلى تراثنا في ظل وجود التكنولوجيا الحديثة"، كما يرى أن استعمالنا لمصطلحات وكلمات وأمثال وقصص ولباس وأدوات تراثية يدب الروح في حضارتنا.
يكمل "كبها" جولته مع "الرسالة" مع زاوية أخرى في الجهة المقابلة لزاوية العرس الفلسطيني لا تقل جمالًا عنها وهي زاوية القهوة وأدواتها، حيث الدلة التي كانت حاضرة في مجالس الضيافة قديمًا، والكانون "المنقل"، ومطحنة القهوة، والبكرج والمهباش، وجرن القهوة ومحمصة القهوة، والمنفاخ وملقط المدفأة.
وما أن تفرغ "كبها" من الحديث عن زاوية القهوة، حتى راح يصف ل "الرسالة" أواني الطبخ وحلله التي تستقر شامخة في المتحف بلمسات فنية ونقوش فريدة وآيات قرآنية بخطوط مختلفة وقدور نحاسية عملاقة، وأطباق تاريخية قديمة.
للحديث بقية
"أهل القرية كانوا كرامًا" كان جواب "كبها" حين سألته "الرسالة" كيف استطاع تجميع هذه المقتنيات والأدوات جميعها بعد الانتهاء من التجول بين ثنايا المتحف، يقول: "وجدت صعوبة كبيرة في جمع الأدوات لا سيما الثقيلة منها، فلم أجد كثيرًا من الأبناء والأحفاد قد حافظوا على هذه الأدوات، لكن لم يبخل علي أحد من أهل القرية في الموجودات التراثية التي كانوا يقتنوها".
"العيون مغارف الحكي" بهذه الكلمات أنهى "كبها" حديثه مع تنهيدة، بينما أنهت مراسلة "الرسالة" بيقين "للحديث بقية يا عم"، فهي اللاجئة من حيفا والتي تؤمن أن العودة إليها قاب قوسين أو أدنى، تمامًا كما تيقن أن التجول الحقيقي في ثنايا "متحف أمي" بات قريبًا.