تعني استراتيجية إدارة الصراع، بالنسبة لـ(إسرائيل)، تجنب أي سيناريو يمكن أن يفضي إلى إلقاء المسؤولية عن القطاع على كاهلها، من هنا، فإن متطلبات تحقيق متطلبات إدارة الصراع، تتمثل في:
أولا: تجنب فتح مواجهة جديدة مع القطاع من خلال استغلال قوة الردع التي راكمتها (إسرائيل) في مواجهة المقاومة خلال الحروب الأخيرة، سيما في حرب 2014. ومما يعزز هذا الميل أن (إسرائيل) تنطلق من افتراض أنها تمكنت من ردع حركة حماس التي باتت غير معنية بفتح مواجهة جديدة.
ثانيا: تقليص فرص اندلاع مواجهة يتطلب عدم توفير ظروف تزيد من هذه الفرص، وعلى رأسها عدم السماح بتدهور الأوضاع الاقتصادية. لكن من ناحية عملية فإن (إسرائيل) تساهم في تشديد الحصار على القطاع غزة لدواع أمنية، بمعنى أنها تقلص حرية الحركة وتمنع استيراد الكثير من البضائع بحجة أنها تنطوي على تهديد أمني. في الوقت ذاته، فإن بعض مظاهر الحصار لا يوجد لـ(إسرائيل) تأثير مباشر عليها، مثل اغلاق معبر رفح، أو الإجراءات التي يتخذها عباس. وأحيانا تتجنب (إسرائيل) الموافقة على بعض مظاهر تخفيف الحصار بسبب مواقف أطراف إقليمية، فعلى سبيل المثال، عشية التوصل لاتفاق المصالحة التركية الإسرائيلية وافقت تل أبيب من ناحية مبدأية على تدشين ميناء عائم قبالة شواطئ قطاع غزة، لكنها عدلت عن ذلك بعد اعتراض نظام السيسي.
ثالثا: إدارة الصراع يتطلب "آلية المواجهة بين الحروب" التي يطبقها الجيش الإسرائيلي منذ عقود والهادفة إلى المس بقدرات المقاومة من خلال عمليات تتم بدون توقيع (حادثة اغتيال الفقهاء) أو من خلال استغلال أي عمل حربي مصدره من قطاع غزة لتبرير توجيه ضربات أهداف منتقاة للمقاومة ضمن بنك أهداف تم بناؤه من خلال معلومات استخبارية دقيقة.
رابعا: في حال اضطرت (إسرائيل) لشن حملة واسعة، فأنه يتوجب تخطيطها بحيث لا تفضي إلى إعادة احتلال القطاع أو أجزاء واسعة منه، بمعنى استعادة نموذج حرب 2014. وقد عبر عن ذلك وزير الحرب الصهيوني ليبرمان مؤخرا عندما قال إن جعل حماس ترفع الراية البيضاء في الحرب القادمة لا يعني بالضرورة إعادة احتلال قطاع غزة. ويتوعد ليبرمان باستنفاذ طاقة الجيش الإسرائيلي كله لحسم المواجهة، دون أن يفصل.
على الرغم من أن كلا من (إسرائيل) والمقاومة يبدوان غير معنيين بالحرب، فأن هناك عاملان يمكن أن يقودا إلى نشوب حرب جديدة على قطاع غزة، وهما:
أولا: تداعيات تفاقم تدهور الأوضاع الاقتصادية في القطاع. فمن ناحية نظرية يمكن لتدهور الأوضاع الاقتصادية أن يوفر الظروف لاندلاع حرب، وليس بالضرورة أن تكون (إسرائيل) وحركة حماس هما الطرفان الذين مهدا لها. فعلى سبيل المثال يمكن لطرف ثالث (مجموعات السلفية الجهادية مثلا) أن تستغل تراخي قدرة حماس على إدارة شؤون القطاع بفعل اشتداد الأزمة الاقتصادية وتبادر إلى عمل ما يدفع (إسرائيل) للرد فتندلع مواجهة.
ثانيا: الحملة والإجراءات الهندسية التي ستشرع بها (إسرائيل) ضد الأنفاق، والتي تشمل بشكل أساسي إقامة عوائق. فحسب التصور الإسرائيلي، فأن هذه الإجراءات يمكن أن تدفع حماس للمبادرة باستغلال ما تبقى من أنفاق والقيام بعمل ما يقود إلى مواجهة شاملة.
هل يمكن أن تتحول الحرب القادمة من تكتيك ضمن إدارة الصراع إلى خطوة إستراتيجية لضمان حسم الصراع عبر إعادة احتلال القطاع؟.
على الرغم من أن مصلحة (إسرائيل) لازالت تتمثل في الالتزام بإدارة الصراع وتجنب محاولة حسمه عبر إعادة احتلال قطاع غزة. من ناحية نظرية، فأن اعادة احتلال القطاع يعد سيناريو متطرف ومستبعد سيما في ظل التصريحات التي أدلى بها نتنياهو مؤخرا أمام اللجنة النيابية المختصة بتقارير مراقب الدولة، حيث أوضح أن معضلة (إسرائيل) في قطاع غزة تكمن في عدم وجود جهة يمكن تسليم القطاع لها.
لكن في ظل الاستنتاجات التي تضمنها تقرير مراقب الدولة بشأن حرب 2014، فأن (إسرائيل) قد تستدرج إلى إعادة احتلال القطاع، للأسباب التالية:
أولا: لقد عد تقرير مراقب الدولة الأنفاق خطرا إستراتيجيا على (إسرائيل)، بمعنى أنه بمعزل عن سلوك حركة حماس وبغض النظر عن التزامها بالتهدئة، فأن الحكومة الإسرائيلية ستكون مطالبة بمحاولة القضاء على هذا "التهديد". أي أنه من الصعب تجنب سيناريو العمل ضد الأنفاق.
ثانيا: لقد انتقد تقرير المراقب بشدة السماح بإطالة أمد الحرب إلى 50 يوما...وهذا سيلزم الجيش والحكومة الإسرائيلية بتخطيط الحرب القادمة بحيث تنتهي في وقت قصير، وهذا سيستلزم استخدام قوة نيران هائلة وأكبر من تلك التي استخدمت في حرب 2014، وهذا يعني دمار أكبر بكثير. وقد تلجأ (إسرائيل) منذ البداية إلى مناورة برية كبيرة تفضي إلى إعادة احتلال القطاع لمنع إطلاق الصواريخ وعدم استنزاف العمق المدني الإسرائيلي.
ثالثا: لا يمكن تجاهل دور اعتبارات السياسة الداخلية الإسرائيلية وتعاظم ثقل اليمين الشعبوي بشقيه الديني والعلماني في الحكومة، بحيث يمكن أن يدفع هذا الثقل إلى توفر بيئة تدفع نحو قرار باحتلال القطاع أو معظم مساحته.
بغض النظر عن مواصلة (إسرائيل) الالتزام بإدارة الصراع أو الانتقال لحسمه تحت هذا الظرف أو ذاك، فأن كل المؤشرات تدلل على أن نتيجة المواجهة القادمة ستؤثر على المقاومة وغزة بشكل جذري.