بصوت بريء: "ماما... أنا أحمد" ثم يصمت ويعيد تكرار المناداة على أمه، "وينك يا ماما" وباستغراب "بتردش عليا"!!!!، لتأخذ الهاتف منه أخته الكبرى وتعتذر للمذيع "بفكر ماما حتقدر ترد عليه"، ثم تبدأ بسرد أخبارهم وأحداث يومهم عبر الأثير، فتخبر أمها بكل التفاصيل حتى أدقها، وتنتهي المكالمة بـــ "الله يفرجها عليك" ودعوات أخرى وجرح لا يلتئم.
هذا ليس جزءًا من رواية، بل وجع حقيقي يسكن قلوب أهالي الأسرى جميعًا، حين يتصلون على البرامج التي اختصت بإيصال الرسائل والأشواق للأسرى داخل الزنازين.
فالطفل أحمد ابن الأسيرة نسرين أبو كميل، التي غيبت براءته مع غياب والدته خلف القضبان، لم يكن يدرك أن والدته تسمعه في زنزانتها الضيقة، وأن صوته يشتت قلبها، وحرقة تصيب صدرها وهي تشعر أن ابنها متعطش لسماع كلمة منها، لكنها مكالمات حكمت عليها إسرائيل بعنجهيتها أن تكون باتجاه واحد.
تشويش و"طبل عالحيطان" !
عبر اتصال هاتفي تروي الأسيرة المحررة هيفاء أبو صبيح ل "الرسالة" كواليس سماع برامج أهالي الأسرى، في معتقل دامون ذي الجدران العالية والزنازين الضيقة.
ومعتقل الدامون هو أحد المعتقلات الإسرائيلية الذي ليس فيه أي مقومات لإيواء البشر، ولقربه من البحر فإن أي شيء يؤثر على حركة البحر من رطوبة عالية أو رياح شديدة وأجواء غير مستقرة يؤثر تلقائيًا على سماع المحطات الإذاعية.
في الأجواء شديدة الرياح، كانت أبو صبيح تضع السماعات في أذنيها لمدة ساعتين قبل موعد بث البرنامج، كونها لا تثبت الصوت إلا في وضعية معينة، حتى أنها تحرص على عدم حركتها حتى تتمكن من السماع والنقل للأسيرات اللواتي ينتظرن الاطمئنان على ذويهن رغم الصعوبات التي تواجهها، معلقة بقولها: "أحيانًا يبقى التشويش المؤذي في أذني حتى صباح اليوم التالي لشدة قوته".
ول "الطبل على الحيطان" قصة أخرى مع الأسرى، لا سيما وقت سماعهم لبرامج ذويهم، وهو تحدٍ آخر يمارسونه على عين السجان الذي يرمقهم بغضب، وهو لا يكتفي بتغييبهم خلف القضبان، بل يقمعهم ويمنعهم من الدق على الجدران في أوقات كثيرة.
فالطبل على الحيطان بمثابة "الجوال" في السجون، وطريقة التواصل الوحيدة بين الغرف في القسم الواحد، فالأسرى يضعون بعض الشيفرات بينهم وقت خروجهم جميعًا إلى الفورة.
وأكثر الأوقات التي كانت يتجلى فيها "الطبل على الحيطان" كما تروي أبو صبيح ل "الرسالة" هي أوقات الاستماع إلى البرامج الإذاعية لأهالي الأسرى لتشعر الأسيرات حينها أنهن يشاركن بعضهن في الفرح أو الحزن بحسب الأخبار التي يقولونها أهاليهن.
وتضيف أبو صبيح: "عندما كانت تتصل عائلة أسيرة لتخبرها بخطبة أحد او ميلاد أحد فورًا يدققن البنات على الجدران فتعاود بعض الأسيرات الدق مرة أخرى، وأيضًا عند سماع بعض الأسيرات لخبر حزين من الأهالي ليشعرن رفيقة الأسر بأنهن معها ويخففن عنها وطأة الخبر".
كما كانت الأسيرات يحتجن إلى الدق على الجدران حين لا يسمح لغرفة في القسم أن تسمع البرنامج، بسبب التشويش القوي أو خراب جهاز الراديو في بعض الأحيان، فتدق إحدى الأسيرات على الجدران، فتتوجه واحدة منهن إلى باب الزنزانة لتنقل أسيرة في الغرفة المجاورة ممن سمعن البرنامج أخبار أهاليهن.
فرح ووجع
"أتنفس نفسًا عميقًا لأشعر ببعض الراحة وأبدأ بالكلام وأحاول ضبط نفسي كثيرًا أثناء المكالمة"، بهذه الكلمات باحت والدة الأسيرة نورهان عواد للرسالة، فعلى الرغم من اتصالها على جميع البرامج الإذاعية المختصة لأهالي الأسرى إلا أن حالة شعورية قاسية تعيشها أثناء الدقائق المعدودة تلك.
فنبضات قلبها تتسارع، وألم يعتصر قلبها، عند الحديث لابنتها عن أخبار وتفاصيل حياتهم في البيت دون مشاركتها لهم فرحهم وحزنهم، ولكن كثيرًا ما تخونها الدموع وتضطر لأن تقفل الهاتف قاطعة الاتصال، لألا يصل ارتجاف صوتها لابنتها، "اللي فيها بكفيها في السجن" كما تحكي.
"بحس حالي عايشة معكم" ففي كل زيارة توصي نورهان أمها بأن تتصل يوميًا على هذه البرامج لأنها الرئة التي يتنفسن من خلالها داخل الزنازين والأكسجين الذي يحمل لهن عبر الأثير، وتصف لها كيف تخفف عنها عتمة السجن وظلم السجان، كما تشعر الأسير بأنه يعيش طقوس الحياة مع ذويه، وأنه غير مهمش ومنسي، كما تحكي.
في زنزانة بسجن الهشارون، يتحلقن الأسيرات حول الراديو بصمت، "فصوت الإبرة لا يسمع" حين يضبطون التردد على أثير الإذاعة التي تبث برامج أهاليهن وذويهن، بعد التعب الشديد الذي يواجهنه لتجهيز "الراديو التعيس" والذي يستغرق ساعات لضبطه بشكل جيد وما أن يبدأ البرنامج حتى تدب الحياة في قلوبهن من جديد، ويستمددن القوة مهونًا عليهن عتمة الليالي.
فهن يعتبرن هذه البرامج كطائر يحمل لهن على جناحه أشواق أهلهن واحبتهن، ليجتزن بذلك أسوار السجن، ويسافرن إلى العالم الخارجي، بحسب رسالة أرسلتها الأسيرة شروق دويات إلى أسيرة محررة تتصل بشكل يومي بالبرنامج لدعمهن وبث العزيمة في صدورهن.
كما تعد هذه البرامج ملاذًا للأسير وذويه في ظل منعهم من الزيارات لفترات طويلة، وأيضًا للأسير الجديد وذويه كون قوانين السجن لا تسمح لهم بزيارته إلا بعد ثلاثة أشهر من اعتقاله.
فالأسيرة أنسام شواهنة التي تقبع في معتقل الدامون والممنوعة من الزيارة ولم يكتب لأهلها الزيارة إلا ثلاث مرات فقط خلال 17 شهرًا من الأسر، تجد أن هذه البرامج التي تنقل لها صوت أهلها ومحبيها كالأكسجين الذي تتنفس به في زنزانتها، كما يرون هم أنه نافذة أمل بإيصال أشواقهم وحبهم إليها، لا سيما أنها ابنتهم الوحيدة التي غيبت وراء القضبان فغاب معها الفرح، "فهذا البرنامج وسيلة للتخفيف عنها وعنا وطأة البعد ووجع الغياب"، كما يحكي والدها ل "الرسالة".
في كل رسالة ترسلها أنسام مع المحامي الخاص بها، تؤكد على أهلها بين ثناياها الاتصال دائمًا عبر الأثير، فهو الطريقة الوحيدة التي يمكن أن تعرف أخبارهم بها "وتنتظره بصبر فارغ يوميا".
أثناء تواجد الأسيرة المحررة هنية ناصر في سجن الدامون، تلقت خبر وفاة والدها، تقول ل "الرسالة": "لولا برامج أهالي الأسرى لبقي القلق في قلبي على أمي لا ينفك يفارقه"، مضيفة أنه وبمجرد سماع صوت أمها عبر الأثير سكن قلبها واستقرت الراحة في نفسها.
كما أن أهلها استطاعوا تزويدها عبر هذه البرامج بأرقام هوياتهم الشخصية لتقديمها لإدارة السجن، للسماح لها بزيارة مفتوحة لأهلها جميعًا كون المتوفى قريبًا من الدرجة الأولى، حسب قانون مصلحة السجون.
لم تنكر أبو صبيح أن هذه البرامج في بعض الأحيان بالرغم من كل الفرحة التي تصل قلب الأسيرات وقت سماع أصوات ذويهن، أنها تكون في بعض الأحيان لها جانب سلبي.
فالتشويش القوي يمنع الأسيرات أحيانًا من سماع بقية المكالمة أو الخبر التي تقوله لهن أمهاتهن عبر الأثير، فيبدأن بالتحليل ووضع التوقعات السيئة وبالتالي تدخل الأسيرة في حالة نفسية قاسية.
كما أن هناك كثيرًا من الأخبار السيئة التي يضطر أهالي الأسرى والأسيرات إيصالها لهم عبر الأثير لعدم وجود طريقة أخرى لإخبارهم، ما يجعل الحزن يستوطن قلوبهم.
ويعود المحرر عدنان حمارشة إلى ذكرياته في سجن مجدو حيث السجن الذي يصعب على الأسرى التواصل مع ذويهن لعدم سماح إدارة السجن لهم بتوفر جوالات للتواصل من خلالها.
بصوت حزين يروي حمارشة أن الأسرى خرجوا لممارسة الرياضة في ساحة السجن، وبقي هو يستمع لأحد برامج أهالي الأسرى ليصدم بخير وفاة والد أحد الأسرى الذي قال له قبل خروجه للرياضة، "مشتاق لابويا كتير ونفسي التقي فيه"، مستحضراً كيف انتظره عند عودته وأخبره بالخبر السيئ هذا.
وعلى الضفة الأخرى تجد مي الزبن أخت الأسير عمار الزبن الذي يقبع في السجن منذ 22 عامًا، في هذه البرامج وسيلة لإيصال الفرح ونشر الضحك في زنازين الأسرى، عبر هذه البرامج، كونها تتقن فن الميلودرامية وهي البكاء بعين والضحك بأخرى.
في أحد الزيارات المعدودة التي زارت مي أخيها فيها خلال هذه السنوات الطويلة، أخبرها عن كمية الفرح والراحة النفسية التي تنشرها بينهم داخل السجون، في ظل ظروف قاسية يعيشونها، ما جعلها تحرص بشدة على التواصل دائمًا عبر هذه البرامج.
خلال متابعة مراسلة "الرسالة" لبرامج أهالي الأسرى منذ سنوات ومشاركتها بعض الأحيان، لاحظت أنه لا يقتصر البرنامج على أهالي الأسرى، فالمتضامنون الذين يتصلون بهدف دعم الأسرى وإرسال السلامات والأشواق لهم كثر.
لم تسعف الكلمات هيفاء أبو صبيح حين الحديث مع الرسالة لوصف فرحة الأسيرات، باتصالات المتضامنين الذين يبثون في قلوبهن سعادة غامرة وتشعرهم بأن هناك أشخاصًا في الخارج يذكرون معاناتهن وأن الألم لا يقتصر على أهاليهن، وأنهن ليست مجرد أرقام في عد السجان صباح مساء.