على ورقة صغيرة وضعتها في إحدى جيوب محفظتها الشخصية، كتبت "غيري قدرك يا سماح"، بينما علقت على جدران غرفتها لافتات كثيرة، حتى أنك تخالها حين تطأها للمرة الأولى أنها معرض تحفيزي للملهمين.
على الجدار الذي يعلو مكتبها، والذي تراكم عليه رزمة كتب كبيرة، يافطة كتب عليها "دكتورة سماح" وبجانبها "سأصير يومًا ما أريد"، و"من سار على الدرب وصل"، وتتربع الحائط عبارة بخط كبير "لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا" ولافتات أخرى.
سماح عفانة (28 عامًا) تدفق في عروقها شغف تجاه "الطب"، فلم تضع حدودًا لطريقها، مدركة أن الحدود لا يضعها إلا قليلو الهمة حتى يقنعون أنفسهم بأن الظروف لم تتوافق وأمنياتهم.
شغف الطب
"شايفة سماح فيه" تبتسم "عفانة"، وهي تنظر إلى رزمة الكتب التي تكومت على مكتبها وتحكي للرسالة أن الطب هو حلم الطفولة كبر معها ولازمها كل مراحل حياتها الدراسية، ولم يكن وليد لحظة، بل هدف تراكم شغفه في قلبها سنين طوال.
ملأت "عفانة" نفسها بهذا الشغف فكان لها وقودًا يدفع إلى الابتكار ويحول أحلامها إلى واقع، متحلية بالحماسة التي تحملها في كل مرحلة من المراحل على تخطي العراقيل والصعوبات.
تخرجت "عفانة" من الثانوية العامة عام 2007، بمعدل 93.3%، ولم يسعفها في تحقيق حلمها والالتحاق بكلية الطب في غزة التي تشترط معدل 97.5.
ثم التحقت سماح بكلية تدريب خان يونس لتدرس تمريض طوارئ، دون أن تتخلى عن حلمها الأول، متخذة قرار إعادة التوجيهي مرة ثانية واجتياز امتحان الثانوية العامةإلى جانب دراستها في كلية خان يونس عام 2008.
تقول: "كنت أهيئ لامتحانات التوجيهي وامتحانات الدبلوم في نفس الوقت.. لكن حصلت على معدل 89.20 أقل من المرة السابقة".
وفي 2009 تخرجت من كلية تدريب خان يونس بتقدير امتياز، وكانت الأولى على دفعتها وعلى كل تخصصات الكلية فتمت مكافأتها بالعمل في عيادات الأونروا لمدة عام.
وفي 2010 قررت المجازفة للمرة الثالثة وأعادت اجتياز امتحان الثانوية العامة إلى جانب شغلها في عيادات الأونروا فحصلت على معدل 94.4 ولم تتمكن أيضًا من دخول كلية الطب.
تلقت عفانة عرضًا من الجامعة الإسلامية للدراسة بكلية العلوم، فاستطاعت أن تنهي سنة بكلية العلوم بتقدير امتياز مع مرتبة الشرف، فقد كانت من ضمن الثلاثة الأوائل ما أدى إلى قبول تحويلها إلى كلية الطب دفعة 2011، لتنهي هذا العام دراستها وتحصل على إجازة دكتور من كلية الطب بتقدير جيد جدًا.
"أيقونة إلهام"
بعد قصة الكفاح الطويلة، تجد عفانة نفسها أنها أصبحت "أيقونة إلهام" لكل شخص لم يستطع تحقيق هدفه، ولكل شخص لديه أحلام ولم يملك الإمكانيات لتحقيقه، ومن يملك الشغف ولكنه يعتقد بأن هناك مستحيلًا يقف حاجزًا في طريق طموحه.
بمشاعر فخر بدت واضحة على وجه "عفانة" حين حدثت "الرسالة" عن مئات الرسائل التي تلقتها على الفيس بوك من أشخاص تخلوا عن أحلامهم وطموحاتهم، لمجرد فشلهم في المحاولة الأولى، لتكون لهم سماح ملهمة بعدم استسلامهم وإعطائهم جرعات كبيرة من الأمل.
لم تنته أحلام سماح بتخرجها من كلية الطب كما ظن الكثير، بل "هو بداية المشوار بالنسبة لي، فالمشوار بدأ من تخرجي" كما تقول، فهي تأمل ألا يحول إغلاق المعابر دون تمكنها من السفر والتخصص في مجال من المجالات الطبية لترك بصمة مميزة في هذا العالم.
ولم تمر كل هذا المجازفات والمحاولات بسلاسة، ف "عفانة" مرت بلحظات إحباط ويأس وعايشت صعوبات كثيرة، تجاوزتها حين قالت عزيمتها "نعم".
فكثير من الأحيان اجتمع على سماح خلال يوم واحد امتحانان، واحد في الثانوية العامة وآخر في تخصص التمريض، ما شكل ضغطًا كبيرًا لها تجاوزته بالاستعانة بالله ثم بإرادتها الصلبة.
تدرك "عفانة" وهي ترى الصعوبات التي يمر بها القطاع الصحي في قطاع غزة، من منع التحويلات ونقص الأدوية وفي ظل عدم وجود إمكانيات كافية لعلاج المرضى في غزة، أن المهارة في مجال الطب أكثر ما يمكن أن يقدمه الإنسان لوطنه وشعبه.
ولم تسعف الأبجدية كلها سماح وهي تتلعثم محاولة أن تصف لحظة وصولها رسالة عبر الهاتف من الجامعة لإخبارها بقبولها في كلية الطب، "فالفرحة لا تسع البيت، كانت كبهجة العيد".
على منصة التخرج، كانت تجلس سماح بفخر وهي تعلم أنها ليست كأي خريجة أخرى، تحكي للرسالة: "تعب ال10 سنوات كله تلاشى حين سمعت اسمي وأنا على منصة التخرج، ووقفت أروي قصة كفاحي للناس جميعًا".
إلى روح والدها الذي تعب معها ولم يكتب له أن ير ثمرة تعبه، وإلى كل من شجعها ولو بكلمة، ومن كان لها ملهمًا مشجعًا محفزًا، وإلى أمها وزوجها وأهلها تهدي عفانة نجاحها هذا.
تنظر "عفانة" إلى شهادتها المعلقة على الحائط، تبتسم وكثيرًا ما تتلعثم ولم تسعفها الكلمات لوصف فرحتها، فهي ليست مجرد ورقة، بل هي قصة كفاح طويلة.