على بعد أمتار قليلة من شاطئ بحر غزة، وتحت أشعة قرص الشمس الملتهب، يحني الصياد عمر بكر (50 عاماً) ظهره على مركب متوسط الحجم، دمرته آلات الغدر الإسرائيلية التي اتخذت من البحر مقراً لها للتنغيص على صيادي القطاع.
يُمسك الخمسيني بكر بين يديه آلة لقطع الحديد في مقدمتها قرص أسود داكن، وهو ما يعرف محلياً بـ "الديسك"، حيث وضعه على أحد جوانب القارب، لجعل ملمسها ناعماً، ليتمكن العاملون الآخرون من استكمال ما انتهى عنده.
في خضم أجواء من العمل والجد، والغبار المتطاير من القوارب المهترئة، اقتنص مراسل "الرسالة" لحظات قليلة منه للحديث عن "إعادة تأهيل وصناعة القوارب في قطاع غزة".
وقف الخمسيني بكر صاحب البشرة السوداء التي انهكتها حرارة الشمس، وأخذ يمسح قطرات العرق عن جبينه وكأنما أخذ فترة "استراحة مقاتل".
ويروي لـ "الرسالة نت" تفاصيل المهنة التي وصفها بـ "الشاقة"، حيث أُجبر على العمل بها بعد مصادرة بحرية الاحتلال لقاربه خلال ممارسة مهنة الصيد، واحتجازه داخل ميناء اسدود حتى اللحظة.
ويقول الخمسيني الذي يعمل في هذه المهنة منذ حوالي 40 عاماً، إنه يعاني من أوضاع اقتصادية صعبة، جراء الحصار المفروض على القطاع منذ 10 أعوام، إضافة إلى الانتهاكات المستمرة التي يرتكبها الاحتلال ضدهم.
ولم يأبه الخمسيني لقسوة الظروف التي حلّت بها، نتيجة الحصار من جهة، وانتهاكات الاحتلال من جهة أخرى، وركّز اهتمامه على ضرورة توفير "لقمة عيش" كريمة لعائلته المكونة من 12 فرداً.
وتعتبر القوارب وخاصة قوارب الصيد، مصدر رزق لفئة كبيرة من المجتمع الغزي الذي يعاني من حصار مدقع منذ قرابة عشرة أعوام، حيث بلغ عدد الصيادين قرابة 3716 صيادا.
في الجهة الأخرى، اتخذ الشاب محمد جربوع (25 عاماً)، موضعاً يتلاءم مع طبيعة عمله في صناعة القارب، حيث يُمسك بين يديه "المشققتين" من طول ساعات العمل، آلة لقطع الخشب الذي يوضع على ظهر القارب.
بدقة متناهية، يأخذ جربوع قياسات الخشب، للبدء بقصها ومن ثم جعل ملمسها ناعماً، لترتيبها وسط القارب بمقاسات محددة.
ورغم المشقة التي يتجرعها جربوع إلا أنه يحب ممارسة مهنته في الصيد وصناعة القوارب، كونه ورثها عن اجداده ووالده منذ خمسة أعوام.
وتعتمد صناعة المراكب على مادة (الفيبر جلاس) والأخشاب وأخرى تسمى (الشاش) كعناصر مهمة، لكن الاحتلال يمنع إدخالها إلى قطاع غزة، بزعم استخدامها في المقاومة.
ويتحدث ذو البشرة القمحية، ويعيل أسرة مكونة من 3 أفراد، عن أبرز المعيقات التي تواجهه خلال المهنة، وتتمثل بتعرضه للإصابة بأمراض مزمنة في الصدر، وحساسية الجلد، من الغبار الناجمة عن مادة "الفيبر جلاس".
ويذّكر جربوع أيضاً أنه خريج تخصص "سكرتارية طبية"، لكن قلة العمل دفعته لمواصلة العمل في مهنته الموروثة عن أجداده.
ويُبدع صانعو المراكب في قطاع غزة، في تشكيل المركبات التي انهكها كثرة الاستخدام، وأخرى دمرتها زوارق الاحتلال الحربية، على مدار سنوات الحصار، والتي أصبحت تعتمد على مادة "الفيبر جلاس" اللزجة بدلا من الخشب.
فرص عمل
وتأتي مهنة صناعة المراكب ضمن مشروع ممول من دول مانحة بالتعاون مع اتحاد لجان العمل الزراعي في قطاع غزة، وفق ما ذكر زكريا بكر منسق لجان الصيادين في اتحاد لجان العمل الزراعي.
وأوضح بكر في حديثه مع "الرسالة نت"، أن المشروع يهدف إلى إعادة تأهيل وصناعة المراكب المدمرة من الاحتلال من جهة، والمنهكة من كثرة الاستخدام من جهة أخرى.
وأشار إلى أن المشروع يسعى إلى إيجاد فرص عمل للصيادين، للمساهمة في تحسين أوضاعهم المعيشية الصعبة، لافتاً إلى ارتفاع سعر المواد المستخدمة في صناعة المراكب واهمها الفيبر جلاس، الذي وصل إلى 800 شيقل، بدلاً من 220 سابقاً.
وذكر أن 280 قارباً في قطاع غزة بحاجة إلى صيانة من جديد، لافتاً إلى أنه جرى إصلاح قرابة 120 قارباً.
ويعاني صيادو غزة من ملاحقة مراكبهم بشكل دائم، من الاحتلال (الإسرائيلي)، ففي إحصائية حديثة حصلت عليها "الرسالة" من اتحاد لجان العمل الزراعي، أن الاحتلال دمّر بشكل كلي قرابة 60 قارباً منذ عام 2014 وحتى الآن.
فيما يبلغ عدد القوارب حوالي 1216 في جميع محافظات قطاع غزة، حيث يحتاج قرابة 50% منها إلى إعادة تأهيل.