كان صديق جده، يحرص على الالتصاق به كما التصاقه بتراث وطنه، فمنذ طفولته وهو يجلس ليستمع له، حيث كان جده يجمع الناس في قريتهم "عقربا" ليحكي لهم عن حياتهم فيها ومواسم الزراعة والحصاد، فورثه حب الوطن والحكاية عنه، رغم أنه لم يتخذ لقب الحكواتي في حياته.
بالزي الفلسطيني القديم، "وبالكوفية على أكتافه"، يتجول الشاب "حمزة العقرباوي" (34 عامًا) في قرى فلسطين ومدنها، متخذًا "مَن تجوَّل في الأرض يملكها" شعارًا له، ليصبح بعد عدة سنوات "حكواتي فلسطين".
"أبو العجايز"
"موت رجل كبير هو بمثابة إحراق مكتبة"، بلهجته الفلاحية الفلسطينية يحكي "العقرباوي" لـ" الرسالة"، وراح يحكي عن نيله شرف التوثيق عنهم، بما يحملونه من كنز في جعبتهم، حيث يشعر أنه مدين لكبار السن، شاعرًا بثقل ما يحمل عنهم، بارًا لهم كأنه ابنهم جميعًا، ويقول بحزن: "كنت في سباق إليهم مع الموت"، حتى لقبوه أصدقاؤه بـ "أبو العجايز" لكثرة حبه لمجالستهم.
"ستكونين زوجة ثانية لأنك ستنزلين ضرة على عقربا معشوقتي الأولى"، قالها مازحًا لخطيبته يوم خطبتها، كما كان من اللافت حين يعرف عن نفسه في حديثه مع "الرسالة" أن يقول "أنا حمزة ديرية"!
فالاسم الذي اشتهر به هو "حمزة العقرباوي" فهو من شدة تعلقه بقريته "عقربا" عرف بها، حيث إن "ديرية" هي حمولته التي ينتسب إليها، يسترسل: "في قريتي سبع حمائل ولذا يسمونها (عقربا: أم السبع حمايل)، والنسب في اسمي المتداول هو لبلدتي (عقرباوي - نسبة لعقربا)".
فعقربا التي في الجنوب من مدينة نابلس، هي مسقط رأسه ومسرح صباه وملعب طفولته، كما أنها بداية مشوار حياته في توثيق التراث وسرده، حيث ارتبط بالأرض لحبه لها، "فعلاقتي بها علاقة عشق" يقول.
سرد جده للناس أو لأفراد عائلته الذين يجلسون عنده في أوقات فراغهم، بلا ملل ولا توقف هو ما جذب "حمزة" لمجالسته، فقد كان قاصًا يبهره بالحكايات التي يحفظها عن البلد وعائلاتها وأنسابها، يحكي: "حتى النصائح التي كان يأتيني بها جدي كانت على شكل حكاية شعبية".
الحكواتي المتجول
حمل "العقرباوي" دفتره الخاص وكاميرته عام 2006، وقرر أن يعمل بحثًا عن بلدته "عقربا"، حيث راح يتجول بها ويبحث عن كبار السن ويجلس معهم ليحدثوه عن تاريخ البلدة والبطولات والشهداء، وما جرى في الأغوار من معارك، ليجد المشروع بدأ يكبر ويتوسع ليشمل مقابلات فيما حولهم من القرى والبلدات.
كانت بداية تجميع الحكايات من كبار السن صعبة، حيث تحتاج إلى إقامة الأنشطة الترفيهية والأمسيات والتخطيط لرحلات، ما وجده تحديًا في مجتمع قروي لا يألف مثل هذه الأشياء، يضيف:" رغم الصعوبات إلا أن هدفي كان واضحًا، وهو صناعة جسم ثقافي فاعل في قريتي".
"تورطت ومن يومها ما سكتت"، يضحك "العقرباوي" حين يسرد موقفًا حدث معه في بداية عمله، ففي عام 2013 أقام مجموعة من أصدقائه أسبوع "حكايا فلسطين"، ودعوه للمشاركة فيه فتفاجأ بأنهم قدموه "الحكواتي"، والذي رفضه وقتها، فهو كان يحكي قصصًا كثيرة، لكنه لم يكن يرى نفسه "حكواتيًا"، ليجد نفسه بعد ذلك قد اشتهر بهذا اللقب.
"ماذا يمثل لك الحكواتي؟؟" كان سؤال "الرسالة" حاضرًا، كما الحماسة البادية على صوته تظهر جلية حين يتحدث عن قريته عقربا، فالحكواتي بالنسبة له هو مقاتل وثائر من الطراز الأول، وينافح عن روح البلد وذاكرتها، يقول: "فالحكواتي الفلسطيني المُعاصر يُقاوم الجُمود والذوبان، ويُقاتل بكلمته وقصته التي يَبوحُ بها، مُبقياً جَذوة شُعلة أُضرِمَت نيرانها منذ 10 آلاف سنة يوم بدأت الحضارة في فلسطين".
حتى لا نفقد البوصلة
محطات التحدي والإصرار التي يواجهها "العقرباوي" والمتجولين، لا يمكن أن تنسى كما يقول لـ"الرسالة"، حيث يعود بذاكرته إلى وقت وصولهم إلى منطقة ممنوعة من قبل الجيش الإسرائيلي، ليمنعهم المستوطنون بالوصول إلى المنطقة، فيما يسمحون للمستوطنين بالعربدة فيها.
حيث يروي بفخر أن الشباب وقفوا في تحدٍ مثير، يعلو غناؤهم للوطن، وبدأ أحدهم بغناء أهازيج زفة شعبية، ما جعل المستوطنين يشتاطون غضبًا يومها، يقول: "وصولنا إلى بعض المناطق يشعرنا بالتحدي ونحس بأن الأرض تبكي فرحًا".
بكل ما أوتي من حب للأرض، يحاول "العقرباوي" المزج بين "التراب والتراث"، عبر صناعة ذاكرة جماعية تربط بين المكان وحكايته وقصته واسمه، فهو يرى أن التشابه بين كلمتي "التراب والتراث" لم يأت من فراغ، "هو تعبير عن ثنائية حقيقية تعني الوطن" يحكي، كما يجد نفسه ملزمًا بحمل روح المقاومة لصيانة التراث وحمايته من السرقة والضياع.
كما يحاول العقرباوي أن يعمل حوارات ومراجعات، لتعزيز مفهوم التجوال والقيم المثلى التي يقتبسها المتجولون في فلسطين، كقيمة الضيافة والتعلم والعمل والتعاون، ولخلق مجموعات شبابية مثقفة تحمي الفلسطينيين من فقدان البوصلة، متخذًا من قول الراحل سليمان الناطور : "ستأكلنا الضباع إذا فقدنا الذاكرة" ملهمًا له في مشواره هذا.
"الحيطة الواطية كل الناس بتنط عنها" بالمثل الشعبي هذا، ختم "العقرباوي" حديثه، حيث يرى أن فلسطين من بحرها إلى نهرها وبكل جغرافيتها وتراثها، أمانة يحملها أبناؤها، ويضيف: "لأجل ذلك أقف في خندق منيع أذود بجهدي في حقل التراث عن هويتنا وتراثنا، أحاول في حكاياتي وجولاتي زرع هذه الروح الثنائية التي ترتبط بالتراب والتراث فلا قيمة لأحدهما من غير الآخر".