قائمة الموقع

والدة "انصيو": "كل ما أشتاق له بروح عالبحر أزوره"

2017-11-09T06:51:58+02:00
​غزة-ياسمين عنبر

"دق الباب، حكيت يمكن حمدي، طلعوا بدهم يخبروني انه استشهد"، حين تستهل الحاجة أم محمد انصيو حديثها بهذه الكلمات، تيقن أن أمهات المجاهدين تقلقهن أبسط الأمور ليلًا، وتسكن الهواجس في قلوبهن نهارًا.

وحدها أم المجاهد "كالغريق يتعلق بقشة" كما تحكي، فأربعون يومًا والحاجة "ام محمد" يقفز قلبها مع كل "دقة باب"، حيث تقول: "وأحيانًا كنت أنتظره على باب الدار"، فقد جهزت له ملابسه، حين وعدها بالعودة ذات ليلة وقتَ أن جاء خلسة إلى بيتهم ليطبع قبلة على كفيها، ولم تكن تعلم أنها الأخيرة.

"لا شافني ولا شفته"

بكثير صبر استقبلت الحاجة "أم محمد" خبر استشهاد ابنها "فهي أمنيته"، حين كانت دقة الباب من قبل قادة (حماس) الذين اجتمعوا عندها لإخبارها، لكن الصاعقة كانت "حمدي استشهد بالبحر"، فكيف لها أن تستقبل هكذا خبر دون رؤية جثمانه، ودون أن ترش العطر على جسده، أو تطبع قبلة على جبينه؟!، وكيف لها أن تمارس طقوس "زفة الشهيد العريس" كباقي الأمهات، كما تقول!!

تتنهد ثم تحكي: "لا شافني ولا شفته ولا اله قبر أروح أروي عطش قلبي"، فكل أمهات الشهداء يرددن بعد وداع فلذات أكبادهن: "لا زال طيفه يحوم حولي"، فكيف حال تلك الأم التي لم تر ابنها في جنازة، ولم تحِطْه بذراعيها، ولم تزينه بالورد في مسيره إلى الخلود.

"ودعته في المنام"، بوجع كبير راحت الحاجة "أم محمد" تحكي عن حلمها بابنها يوم إخبارها بنبأ استشهاده، تقول: "غفيت وأنا بالعزا إجاني بالحلم وقف قدامي وودعته"، معتبرة هذه الدقائق "رحمة من ربنا".

كما فصول حكايتها التي تمتلئ وجعًا، هكذا فصول السنة جميعها عند الحاجة "انصيو"، فلم تفرق بين صيف أو شتاء، أو نزهة وغيرها، تحكي: "كل ما أشتاق له بروح عالبحر بزوره"، معتبرة أن جلوسها أمام البحر يعوض ولو جزءًا من حسرتها على عدم وداع ابنها، فسيبقى البحر العدو والصديق بالنسبة لها، وللأبد، فهو المكان الذي خطفه، كما "قبره اللي احتضن جسده الطاهر"، كما تحكي.

حكايات وجع !

"غائبهم حتى يعود، ومريضهم حتى يشفى"، تكون إجابة الأم حين تسأل عن أقرب أولادها إلى قلبها، لكن جواب الحاجة "أم محمد" كان مغايرًا حين قالت وهي تعتصر وجعًا: "كل أولادي توجعت فيهم، فمنهم الأسير والمبعد والشهيد والجريح".

ورغم تماسك الحاجة السبعينية ""أم محمد" وصلابتها، إلا أنها بكت حين عادت بذكرياتها إلى أكثر من خمسة عشر عامًا، تقول: "اجى عليا عيد ولا واحد من أولادي معي"، وراحت تروي فصول حكاية الوجع.

"اليهود دوقوني الوجع أشكال ألوان يا ابنيتي"، تحكي الحاجة لـ "الرسالة"، فلم يقتصر الألم في حياتها على استشهاد ابنها، فهي ذاقت مرارة الفراق حين أبعد أحد أبنائها "أحمد" 18 عامًا، وحين تجرعت أسى السجن حين أسر ابنها الأكبر، وتسترسل: "ابني ياسر ضل 20 سنة وهو جريح بعدها استشهد"، لتصبح "أم الشهيدين".

فالعذاب الذي ذاقته من الاحتلال لم تستطع وصفه بكلمات، ولا تحتاج إلى أحد ليذكرها، تتيقن من ذلك حين تقول لمراسلة "الرسالة": "تفكريش انك فتشتي جروحي، جرحي وعذابي ما بنساه ولا يوم عشان حد يذكرني"، وتتنهد حين تحكي: "آخ يا ابنيتي.. اللي شفته ما بتكفيه كل جرايد الدنيا".

وما زاد من ألم الحاجة "أم محمد" أن غياب ابنها لم يقتصر على رحيله إلى الأبد، واحتضان عباب البحر لجسده دون وداعها له، إذ لم يبق متعلقات له في البيت الذي ترعرع فيه.

حيث جاء قبل استشهاده بشهرين تقريبًا، وأخذ كل صوره ودفاتر خواطره التي كان يكتبها، ولم يبق غير صورة خبأها أحد إخوته، وقصاصة ورقة كتب عليها: ""إني راحل من ذكرياتكم .. من أطيافكم ..من ماضيكم وحاضركم ومستقبلكم ..سأبحر في اليم لأعالج ذكرياتي بالذوبان، وأرسم ما تبقى مع الأصيل".

ختمت والدة "انصيو" حديثها بلهجتها الفلاحية: "صحيح أنا ما غنيتش لحمدي وقت وداعه، بس حافظة غناني ام الشهيد"، وراحت تنشد لحن الوجع: "زفوا الشهيد وخلوا الزفة عالسنة، زفوا الشهيد لبيتو التاني في الجنة"، ليرتد صدى نشيدها قصيدة شاعرٍ حين قال: "أجمل الأمهات .. من انتظرت ابنها.. أجمل الأمهات التي انتظرته.. وعاد مستشهدًا.. فبكت دمعتين ووردة، ولم تنزوِ في ثياب الحداد".

ويعد السابع من نوفمبر هذا العام الذكرى السابعة عشر لاستشهاد المجاهد "حمدي انصيو" وهو أول كوماندوز قسامي بحري، حيث قاد قاربا بحريا محملا بـ 120 كيلوا من مادة المتفجرات TNT، وفجره عام 2000 في زورق حربي تابع لبحرية الاحتلال ما أدى إلى مقتل من بداخله. 

اخبار ذات صلة
مَا زلتِ لِي عِشْقاً
2017-01-16T14:45:10+02:00