مهند يونس
لم يكن ميتًا ككل الموتى، كان يصحو من نومه ليبدأ بحمل الثقل الذي يسحبه إلى الأسفل، ويتجوّل في العالم بثقل، كل الموتى تحرروا من جثثهم، عندما يصل الميت المقبرة، يطرح جثته كما يطرح المرء ملابسه، ثم يتقدم النزيل الجديد ليجد لنفسه مكانًا يليق بخفّته.
كان الموتى يتسامرون ويتضاحكون عمّا بدت عليه جثثهم إذ رؤوها آخر مرة، البعض يعود إلى المقبرة، يصدف أحيانًا أن يجدوا أحباءهم وأقرباءهم يزورون قبورهم، فيضحكون، كمن نقل مكان سكناه من شقة إلى شقة في الشارع المقابل، ويراقب كل يوم الزوّار الحيارى من وراء ستارة الشباك، ويسمع طرق باب شقته القديم وصراخ الناس عليه، بتلذذ.
أما صاحبنا المسكين، فلم يستطع التحرر من ثقل جثته، وظل رازحًا تحت سطوة التصاقها به أينمّا حل وارتحل. كان يساوره شعور بأنه حي، وكان يشقّ عليه صحوه إذ تزوره عائلته ولا يستطيع الهرب من بكاءهم، كان يفكّر، ماذا سيقول لهم عندما يلتحق أحدهم به، لكنه كان رقيقًا خيّرًا، فيطرد من باله هذه الفكرة، ويتمنى لهم دوام العافية. إلّا أنه كان يشعر بالظلم، فهو ميت بلا طائل. لقد قيّده الموّت بدل من أن يحررّه، قيّده كفنه الأبيض، الذي لم يتعاون معه أيٌ من الموتى لحل وثاقه، فيضطر للتقافز مثل الأرنب للتجول هنا وهناك.
ويعود بمشقة بالغة آخر النهار لينام، داسًا نفسه في مساحة المتر عرضًا بالمترين طولًا. ويضطر لاحتمال صوت المعاول التي تستخرج الرمل لإضافة الزائر الجديد، إذ يوقظه هذا الصوت أحيانًا من رقاده الهنئ في منتصف الليل.
لم يعرف، لماذا لم يقدر على التحرر، الموتى القدامى لم يجيبوه عن سؤاله لهم بأن كيف تحرروا، كأن الإجابة تسحب بالضرورة عليهم فقدان حريتهم. كان يعوّل على الموتى الجدد اللاحقين، لكنه كان يشعر بالغيظ، إذ يراهم أحرارًا، فينتابه شعور الطفل الصغير الملفوف بمهده، ويشرع بالبكاء كالأطفال الرُضّع، ويشتاق بشكل غريب لأمه، ويحزن كلما زارته لعجزه عن اخبارها كما كان حيًا بما يقلقه، وتعاوده تلك الفكرة الشريرة، فيطردها من جديد.
"كم أنا مسكين"، قال لنفسه. وأيُّ مسكينٍ!
ودّ لو كان هذا كابوس ليستيقظ منه، لكنه تذكر أن الموتى لا يحلمون. غير أنه، ود مرة أخرى لو كان هذا كابوسه الحي، وأنه لم يمت أصلًا. ودّ لو استطاع إخبار نفسه، كم شاق على المرء، أن يبقى عالقًا بثقله هكذا، ولو كان ميّت. فمعاول الدنيا كلها، ليست بمستطيعة أن تقنعه ولو لحظة استيقاظه، أنه يحلم.
لم يستطيع أن يتميّز برزخًا بين حالتين من الوعي ولا اللاوعي. تذكّر أنه لم يجرب المخدرات بتاتًا، ولا حتى المنومّات، فعلى كرهه لها، لم يقبل بيوم من الأيّام لحبة دواء أو جرعة مخدّر أن تنقذه من أرقه. الآن، وفقط الآن، عندما مات، وجد أنه كان مخطئًا.