حين تلمح لوحة منقوشة على الرخام علقت على جدران أحد البيوت في أزقة البلدة القديمة النابلسية، قد كتب عليها: " أنا الآن رجل عجوز أشعر بكبري عندما أكون خارج محيط المدينة ولكنني حالما أدخل البلدة القديمة أشعر كأنني شاب من جديد»، تدرك معنى ما كتبه القلقشندي: "نابلس مدينة يُحتاج إليها ولا تحتاج إلى غيرها".
وعلى جدار قديم، تصادفك لوحة كتبتها الفنانة الألمانية أنجليكا من خلاصة الذاكرة الجماعية عند حديثها مع أهل المدينة النابلسية القديمة -حين زارتها- عن الانتفاضة، وقتها تشعر أنك تتصفح بقلبك جزءًا من الحزن النابلسي الذي سببه الاحتلال الإسرائيلي، وقد نقش عليها: " كلما أقف عند قبر صديق شهيد أفكر في كتابة رواية هي قصة حب حمل فيها الشباب خلال الاجتياح الأول والثاني بنادق قديمة ولكن رغم ذلك كانوا حصنًا للمدينة".
تجولت "الرسالة" مع الناشط في الحفاظ على التراث النابلسي "أحمد هاشم" في منطقة القصبة، متجاهلة كل الحواجز التي نصبها الاحتلال لحرمان الفلسطينيين من التجوال في مدنهم العريقة والتعرف عليها.
فالقصبة كما يحكي "هاشم" هو اسم يطلق على أي مكان قديم في المدينة، لتسمى بذلك "المدينة القديمة" النابلسية بقصبة نابلس، بكل مكوناتها الجغرافية الطبيعية والسكانية وعراقتها التاريخية، يقول: "القصبة تطلق على كل مكان يعد نواة أو قلب المدينة".
ويضيف: " تنقسم المدينة -شأنها شأن المدن القديمة العريقة والتي لا تزال مأهولة- إلى أحياء قديمة تعرف بالبلدة القديمة أو القصبة، وإلى أحياء حديثة"، ثم راح يحكي بفخر عن العهود الزاهرة للمدينة النابلسية القديمة التي خلفت معالم وآثارًا وأطلالًا في جهات مختلفة داخلها وخارجها، ما جعلها مقصدًا للزوار والمهتمين.
فمدينة نابلس تعود في بعض حجارتها إلى 400عام خلت، وتمتد فيها الأسواق القديمة والبيوت (القصور) العتيقة والطرقات المسقوفة وغير المسقوفة وتنتشر فيها مساجد ومقامات وحمامات تعود إلى العهدين التركي والمملوكي.
لم يغفل "هاشم" في حديثه مع "الرسالة" الإخبار أن كثيرًا من النابلسيين يطلقون على المنطقة التي تتوسط المدينة القديمة "حي القصبة"، مضيفاً: "كل حارة إلها قصصها وحواديتها وتاريخها وفنها وجمالها، ولهفة أهلها على بعض حكاية تانية".
*** "قلب نابلس"
وحي القصبة كما يطلق عليه البعض هو حكاية تاريخ، حكاية بين الماضي والحاضر، من مبانيه والتصاق حجارته ببعضها البعض ترى عظمة المكان، وتلمس تاريخًا وحضارة تجعلك تستعيد أمجاد الأجداد النابلسيين الذين تركوا بصمة عظيمة في مدينة نابلس، والتي سميت "دمشق الصغرى" لتشابهها الكبير مع أزقة دمشق القديمة، يروي "هاشم".
وينتصب المسجد الحنبلي في حي القصبة شامخًا بضخامته وحجارته القديمة، وبني في عهد السلطان العثماني سليمان بن عثمان، يقول "هاشم": "كان يسمى الجامع الغربي، ومنذ القرن السابع عشر غلب عليه اسم الحنبلي، نسبة إلى الحنابلة الذين تولوا الإمامة فيه وهم المنتسبون للمذهب الحنبلي".
بعزة بادية على صوته، يروي قصة الخزانة في المسجد الحنبلي، والذي يستمد مكانته في النفوس لأجلها، حيث يوجد بها ثلاث شعرات للرسول محمد _صلى الله عليه وسلم_ أحضرت من الآستانة، حيث كتب على منبره "تجدد بناء هذا المسجد وتشرف بالشعرات المحمدية بأمر الخليفة السلطان محمد رشاد خان الخامس سنة 1330هـ".
وبالذهاب إلى شرقي حي القصبة يكمل "هاشم" جولته، حيث يوجد المسجد الصلاحي وأصل هذا المسجد كان كنيسة صليبية شيدت في العام 1167 ميلادية حولها أهلها إلى مسجد بعد إسلامهم.
وبعد فتح صلاح الدين الأيوبي نابلس واستردادها من أيدي الصليبيين، أطلق النابلسيون على هذا المسجد اسم "المسجد الصلاحي الكبير" تكريماً له.
يقول هاشم: "شهد هذا الجامع عدة تجديدات وإضافات في العهود الأيوبية والمملوكية والعثمانية"، ويضيف: "تهدم جزء منه في أعقاب الزلزال الذي ضرب الأراضي الفلسطينية بعامة، ونابلس بخاصة في العام 1927 ميلادية وقد أجريت عليه مؤخرا من الداخل إصلاحات تستهدف إعادة المظهر التاريخي والتراثي له".