عزيزي والدي ..
أو دعني أقول حبيبي بابا ..
"بابا" التي حرمت منها، حرمت من ضم شفتي منذ ما يزيد عن أحد عشر عامًا، لأناديك بها وأشبع حاجتي لإدراجها في قاموس لغتي.
أكتب اليك اليوم بعيدًا عن شاشات التواصل الالكترونية، بعيدًا عن بلاهة التكنولوجيا التي تحرمنا الكثير، وهي في نظر الغير تعطينا الكثير.
أبي.. دعني أخبرك سرًا، باتت تؤلمني ابتسامتك مؤخرًا، نعم باتت تؤذيني وأنا التي ما عادت تحتمل رؤيتك مبتسمًا، ولماذا تبتسم لأجلي وتكابر على خلايا يحرقها الكيماوي!، ولماذا تكتم الآه في صدرك حين تظهر صورتي لك عبر هذا الغبي الايمو أو ذاك البليد السكايب!، لماذا لا أحتضنك ونبكي سويا!!
أتدري يا أبت .. حين أمرض بت أستحي أن أزفر الآه وجعًا، ليس لأنني قوية، أو كما كانت تقول جدتي:"بجمط ع الوجع"، ببساطة لأنني أستحضر ذات الابتسامة وأنت الذي ينهش جسدك الخبيث..أيقنت بأنه لا وجع بعد أن ترى حبيبًا لك يتألم ويهديك ابتسامة في آن واحد كما تفعل أنت!
أبي الغالي.. يبدو بأنني ورثت منك الابتسامة، والحمد لله أني لم أرث عصبيتك في رمضان وفي كل أشهر السنة كذلك.
أتذْكُر يا والدي الحلاوة الطحينية؟، لا أعتقد بأنك نسيت وقد كنت تحضرها خصيصًا لي، أتذْكُر كيف كانت تبهجني وأنا آكلها أمامك بالملعقة لتبتهج أنت كذلك، اليوم لا بهجة ولا جنون ولا ملعقة مع حلاوة رمضان يا بابا..
حلاوة.. اذًا أسنان.. اذًا سوسة هناك، دعني أخبرك عن آخر جلسات نزع العصب من أسناني، تخيلتك تقف الى جانبي الأيسر، أصابعك العريضة كنت أشعر بها كذلك، لا زلت أذكرها بشكلها الملفوف الدائري، أشعر بقوتها حين تشبكها بأصابعي لحظة انغماس ابرة البنج في فمي، كيف لها اليوم لا تقوى على اغلاق زر قميصك!، كيف لأصابعك أن ترتعش يا والدي!
أوصيتني يا عزيزي مرارًا ألا ألعن أحدهم، أعذرني يا أبتي فأنا ألعن السرطان مرارًا والغربة تكرارًا ومعبر رفح ليلًا ونهارًا..
قبل عام من الآن غردنا على وسم #عشر_سنين_حصار_يعني، أذكر يومها أني ذيلت الهاشتاق بالكتابة :"انك تلبسي روب التخرج من الجامعة وتتوظفي وتلبسي البدلة البيضا وتصيري ماما من غير ما تسمعي زغرودة إمك أو تشوفي دمعة فرح بعيون أبوكِ".
بابا الفلسطيني.. إليك أكتب وأنت الثائر الأجمل في نظري، فمنذ طفولتي و"الياسر" حاضر برعشة يديه وكوفية رأسه التي كانت تدهشني طريقة لفه لها، و"الياسين" كذلك حضر بقوة وهو يحرك عزيمة الثوار من على مقعده المتحرك، وكان "الشقاقي" شعلة نور وعلم بذكراه، بينما الرفاق كانوا الثورة وزغرودة البارودة، كان الوطن صحيًا في بيتك.. كان صحيا في الغربة، الوطن هنا مختلف!
أخبرتني مرّة يا عزيزي أن الوطن يسكن القلب ويتنقل معنا، فلا غربة للوطن، سامحك الله يا والدي لم تخبرني بأن غربة الأهل أشد فتكًا بالقلب، لم تنبهني الى أنها ستكون من أكثر العقد التي لا شفاء منها.
أطلت عليك أدرك ذلك، كما أنني أدركت معنى أن يستهزأ المرء بمن يطلبون منه أن يبقى قويًا، أدركت أن ما بداخلنا من ألم أكبر من أي كلمة مواساة، أدركت أن آه واحدة تتسرب لي منك عبر أسلاك الهاتف قد تميتني قبل الموت دون عودة للحياة!
قبل الختام يا أبتي والسلامات التي وددت أن توصلها لأمي واخوتي، أؤكد لك بأنه ورغم هشاشة داخلي، الا أن عضلات وجهي تدهشني وهي تتمدد لترسم ابتسامة جديدة كل صباح، أعدك أن أبقى ذاك الأمل الذي أسميته يوما، مجبورة أن أبقى أملًا لمن حولي لأجلك أنت وأنت وحدك.
ملاحظة: لا أريد أن يتأذى قلبك من كلماتي، وفعليًا أتمنى ألا تصلك رسالتي هذه، أنا فقط أتنفس بالكتابة، شهيتي مفتوحة للكتابة، كما الألم .. كما الأمل.
ابنتك أمل
غزة