تواصل قيادة السلطة الفلسطينية العزف على أسطوانة التوجه لمحكمة الجنايات الدولية، منذ انضمامها لميثاق روما عام 2014، مصورة وقوف قادة الاحتلال خلف القضبان على أنها "مسألة وقت"، إلّا أنها تخفي حقيقة عدم رفعها أي قرار إحالة للمحكمة، في محاولة لخدع الرأي العام الفلسطيني.
ورغم اعلان عباس قرار انضمامه لـ22 منظمة دولية، وحديثه المتكرر عن التوجه لمحكمة الجنايات في ملفي العدوان على غزة والاستيطان، وإعلان لجنة متابعة الانضمام للجنايات بأنها ستتجه بشكوى ضد الاستيطان في القدس الشرقية، إلّا أن الحقيقة الدامغة بأن السلطة الفلسطينية لم تقدم أصلاً أي طلب إحالة إلى محكمة الجنايات الدولية، ولم تطلب من المدعي العام أن يباشر بتحقيقات حولها، وفقًا لقانوني في محكمة الجنايات الدولية تحدثت إليه "الرسالة ".
وبحسب قيس أبو ليلي عضو لجنة الانضمام (التي تضم ممثلين عن معظم الفصائل والتجمعات القانونية)، فإن مجرد قبول فلسطين لوصاية المحكمة الدولية على الأراضي الفلسطينية في الرابع عشر من شهر يونيو 2014، بمنزلة طلب من المحكمة أن تبدأ تحقيقاً أولياً فيما يعتقد بوجود جرائم حرب، "وبالفعل جرى البدء في التحقيق الأولي وقدم أكثر من ملف وعقد اجتماع مؤخراً في عمان بين ممثلي الادعاء العام وممثلين عن اللجنة"، وفق قوله.
محقق بالجنائية: السلطة لم تتقدم بطلب التحقيق وتكذب على شعبها
ثمة ما تجاهله أبو ليلى وأعضاء اللجنة، وهو أن هناك مئات الـدول التي تنضوي تحت لواء المحكمة، وأن إعلان انضمامها لا يعتبر فاتحة للتحقيق بأي جرائم، والكلام هنا للخبير والمحقق القانوني في محكمة الجنايات عبد الرحمن علي.
ويوضح علي الحائز على شهادة الدكتوراه في القانون الدولي من جامعة إيكس مارسيليا، في تصريح خاص بـ "الرسالة" من باريس، أنّ الطريق لفتح تحقيق جنائي فيما يتعلق بالجرائم المرتكبة في فلسطين يمر بأحد ثلاثة مسالك تنص عليها المادة (13) من نظام روما، أولها أن يحيل مجلس الأمن القضية إلى المدعية العامة للمحكمة الجنائية مثل ما حدث في ليبيا والسودان، وهذا لن يحدث لأسباب معروفة تتعلق بالموقف الأمريكي.
أمّا المسلك الثاني فهو أن تحيل فلسطين القضية بوصفها عضوا في المحكمة إلى المدعية العامة وتطلب منها رسميا فتح تحقيق. وهو ما لم يحدث إلى الآن، والمسلك الثالث أن تفتح المدعية العامة من تلقاء نفسها تحقيقاً كاملاً في قضية فلسطين.
ويقول علي لـ "الرسالة": إن فلسطين إلى الآن لم تحل الجرائم المرتكبة في فلسطين لسبب قانوني بسيط وواضح، وهو أنه حسب البند (45) من قواعد لائحة المحكمة (Regulation of the Court) التي تذكر أنه يخطر المدعي العام رئاسة المحكمة كتابياً بمجرد أن تحيل إليه دولة طرف حالة ما بمقتضى المادة (14)".
كما يشترط البند (46) من قواعد لائحة المحكمة على "رئاسة المحكمة أن تحال القضية المحالة إلى المدعي العام من دولة طرف فور إخطار المدعي العام لرئاسة المحكمة بذلك وفقاً للبند (45) إلى دائرة تمهيدية مكونة من قضاة المحكمة".
دبلوماسي: المالكي طلب من (المدعية العامة) للمحكمة أن تفعل ما تراه مناسباً
وهذا يعني أن فلسطين لو أحالت قضية إلى المحكمة الجنائية الدولية وإلى مدعيتها العامة، فإن على رئاسة المحكمة المكونة من قضاة المحكمة أن تنشئ فورا دائرة تمهيدية باسم حالة فلسطين، مكونة من ثلاثة قضاة، لكن هذا ما لم يحدث ببساطة لأن دولة فلسطين لم تحل أي قضية إلى المدعية العامة، وفقاً لعلي.
وأوضح أن إرسال السلطة لملفات جنائية إلى المحكمة لا يعني بالمطلق أن هذا طلب إحالة للتحقيق، مؤكدًا أن طلب التحقيق يتأتى من خلال نص مكتوب ترسله السلطة إلى المحكمة وتطالبها فيه بفتح باب التحقيق في الجرائم المسندة إلى الاحتلال.
وأمام المعطيات السابقة، فإن حديث السلطة عن تقدمها بطلب للمحكمة ببدء التحقيق الفعلي، هو أمر غير صحيح وكاذب وفق ما يشير إليه الخبير والمختص في الجنايات الدولية.
ويلفت إلى أن إحالة القضايا إلى المحكمة الدولية أمر بسيط يمكن لأي شخص القيام به، ولكن الأهم أن تطلب السلطة بصفتها عضوا في المحكمة الادعاء العام بفتح تحقيق رسمي في الانتهاكات الموثقة بالملفات.
ثمة سيناريوهات يطرحها الخبير الدولي بشأن عدم تقدم السلطة بطلب رسمي لفتح التحقيق، أولها بحسب الخبير يكمن في أنها لا تريد إحالة القضية رسمياً، ولكنها تريد من المدعية العامة القيام بذلك من تلقاء نفسها حتى يظهر للعالم أن المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية هي التي فتحت تحقيقاً مستخدمة حقها حسب نظام روما، لكن ذلك يتضمن الكثير من المخاطر، أولها أن المدعية العامة قد تنتظر سنوات عديدة قبل أن تقرر فتح تحقيق من تلقاء نفسها، وفقًا لقوله.
ويضيف "كيف لصاحب القضية أن يضع قضيته لدى أطراف أخرى كي تحركها، ويربأ بنفسه عن ذلك"، مرجحًا احتمال وجود صفقة بين السلطة والاحتلال من أجل عدم التقدم بطلب رسمي بفتح التحقيق، ورغبة السلطة في إبقاء هذا الملف ورقة ضغط على الاحتلال للعودة إلى المفاوضات.
قانونية: ليس من اختصاص المحكمة النظر في قضايا منفردة والسلطة تخادع
ويؤكد فهمي شراب الدبلوماسي في الخارجية الفلسطينية، أن السلطة قدمت شروحات وتقارير عن السلوك الإسرائيلي فقط ولم تقدم شكوى رسمية للجنايات.
وأوضح شراب لـ "الرسالة"، أن رياض المالكي وزير الخارجية لدى حكومة الحمد الله، طلب من بنيسوتا (المدعية العامة) أن تفعل ما تراه مناسباً، وهي لديها أعداد كثيرة من التقارير والشكاوى ولا تفعل شيئا، وخاصة أمام الاحتلال الإسرائيلي، وفقًا لقوله.
وفي غضون ذلك، تلفت الباحثة القانونية أماني السنوار، إلى أن المحكمة تختص بالنظر في الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي التي تحصل على شكل "هجوم ممنهج واسع النطاق" أو عندما ترتكب الجرائم كـ "جزء من خطة أو سياسة عامة واسعة النطاق"، وفق دستور المحكمة.
وقالت السنوار لـ"الرسالة": "إن رفع ملف لا يعني بتاتًا إحالة شكوى ولن يقود إلى فتح تحقيق ضد (إسرائيل)، كما أن هذه الجرائم الإسرائيلية (منفردة) لا تعتبرها المحكمة من اختصاصها أصلاً"، وفقا لقولها.
وأكدّت أن السلطة تواصل ابتذالها في استخدام ملف المحكمة كأداة لتسكين الشارع، مطالبة الفصائل الفلسطينية المشاركة في لجنة الانضمام لمحكمة الجنايات "للانتباه وعدم المشاركة في اللعب على وعي الناس ومشاعرهم".
وهنا ينصح الخبير الدولي الدكتور عبد الرحمن علي، حركة حماس وبقية الشخصيات الوطنية وممثلي الفصائل لإعلان موقف الانسحاب وعدم المشاركة فيما وصفها بـ "المسرحية" التي تحبكها السلطة في وعي وضمير الشعب الفلسطيني لتحقيق أهدافها السياسية