جوان محمود
ترقد بجانبي قطع من البسكويت الرخيص لم اتمكن من شراء الشكولاتة لنفاد المصروف، صوت الساهر يصدح من سماعات حاسوبي. الليلة إحساسي غريب. كاظم يردد انه لا يريد الحب ولا يريد الحزن وكأن الأمر بيده..
حقيقة تداعبني على طرف كل مساء أنني لا أعرف بدقة أين موضع وجعي رغم شعوري بحشرجــة بصدري تغص رحــاه، أريد فقط رئة جديدة.
سكون كهدوء المقابر يسمونه في لغتنا الصمت، الصمت الذي أرهقناه وألصقنا به علامة الرضا فهو كثير يكون سبيل اهانة ويكون اختصار للوجع والفقد. الصمت لا يناسب الرضا مطلقا. أتعلمون ان الله أخبرنا (لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم) العقاب بالصمت والصد أسوأ أنواع الجلد والتعذيب النفسي.
الصمت لن يفهم حق فهمه ما يقوله صمتك من لا يتبيّن بوضوح كل ما تقوله ولو قمت وأنت تحدّثه بمحاكاة كل أبجدياته في الكلام.. حتى أنه قد تصيبك خشيةٌ من ألا يُصلح ما بينكما العتاب إن أنت أعتبته أو طلبتَ من نفسك له العتبى.
هنا فقط يكون طول الصمت بعض الموت، وليس بعد الموت من مستعتب..
باب غرفتي المزين بصور الراحل يوسف وبعض القصاصات غاصت وابتعدت ملامحها، أتركه دوما مواربا منذ وفاة محمود.. ربما أتعمد ذلك لأنني لن أبقي بداخلها طويلا. الموت خلفي دوما.
مدينتي تتشابه مع باريس في ضدها، فهنا الظلام دائم، وأفكاري كمدينتي أصارع لوحدي الظلام، في أعماق الظلام ولا أحد يفهم شيفرة نفسي سواي. هذه حياتي وهذا حقي.
رأسي التي عرضتها للبيع، لم يراسلني بشأنها أحد، وذاكرة السمكة قد حلت ضيفة دائمة ويبدو انها قد نسيت كيف تسبح فتركت قريني يجول ويصول في خلايا النسيان.
ما زال الساهر يغني، يفتش عن حبيبته هنا وهنا.. ويقول أن الوعود تصب في عين حبيبته، ويخيرها بالموت.. فتش براحتك، ولك الصبر إن اختارت الموت.
تذكرت عبارة لا تبك على اللبن المسكوب، أكثر عبارة لا أؤمن بها، وكل مرة أتساءل لم لا نبكي اللبن المسكوب؟ أنخالف القانون؟ هل يجب حين يغادرني قلبي أو من في قلبي المطلوب مني حتما ألا ألتفت ورائي وأكمل خطواتي دون أن تسقط مني عبرات ساخنة معبرة عن فقدي وفقيدي؟؟ هل البكاء على اللبن ضرب من ضروب الوهن؟؟ أصلا البكاء واجب كي تتعلم فيما بعد ألا تبكي.
في سقف الغرفة وجه لأحدهم أهمس معه خلسة أن تسمعني أمي فتهجوني وتختم "عليكي جن ي بنت" أتمتم في سري يا ليتني رسالة تكتبها بخط يديك، وأرتضي لو كنت زجاجة العطر ولي في هذه الأمنية مأرب أخري الافصاح عنها شرعا يصنف من الحرام المؤقت، وأضعف ايماني أن أصبح شجرة "بلاز" تطل علي نافذتك لأري وجهك كل صباح بدلا من السقف، ليتني النون الساكنة في أنت..
الحب.. في الحياة أساليب ذبح تتعدد ومنها الحب... وأنا بالتأكيد أستحق الحب، أقولها أنا حتى لا أنتظر أحدا يقولها لأجلي ولا أظن أحدا سيفعل. يا ترى من يستحق هذا ومن لا يستحق على كل حال لا أريد أن اعلم.
أنا أحب نفسي كثيرا وأدللها بشراء الهدايا في المناسبات ولا أنتظر الهدايا من أحد وأن أول مبدأ لي في الحياة هو أنّ لا شيء يحك جلد قلبي أفضل من ظفر لحظات كشف تقف فيها حواسي عارية إلا من الحقيقة.
المهم..
تبدو لي عبارة "تحبينني كثيرا" غريبة بعض الشيء، أنا التي لم تستطع يوما الاحتفاظ بحب أحد.. هناك أشياء كما أقول في كل مرة لا تكون مقدرة للجميع وليس ذلك طبعا من باب أنّ الاشياء الجميلة لا تحدث إلا للآخرين.
ثم لطالما التصق بعقب "كثيرا" بعد تصريف فعل أحبّ مع الضمير المناسب نذير نهاية.. لقد جربت قولها لاحدهم أحبك أكثر فكنت ضحية كلمة. نصيحة على هامش الحرف.. اكتفوا ب أحبك دون وأنا أكثر منك..
اممم يبدو رأسي يعيش حالة من التشتت ومحاولات رؤية معنى ما في أشياء من المفترض أنّ لا معنى يُرى فيها..
تتحلق نصوص كثيرة داخله، تتباحث فيما بينها سبلا شتى تشدّ بها شَعر رغبتي في تخليصها من وجودها المبهم بعد أن أعياها التوسل إليّ لمنحها تتمات ترسم لها وجها تُعرف به داخل إطار اللغة.. سئمت هي البقاء خارجه وأرغمها أنا على الصبر والوقوف على ما أسميه " أعراف " كتاباتي.
أخدعها بالقول أن رأسي جنتها وأنها تكون دائما أجمل وأنقى حين تبقى مقيمة بين أسوارها وأنّ الجحيم في الخارج.. والحقيقة أني اتركها هناك لأنّه لا رغبة لي في تحقيق ما يُملى عليّ من رغبات الحروف.
رغبة مغايرة نجحت في إقناعي بعدم فعل شيء سوى إخراج أدوات رسم اختفت عن ناظري تحت غبار سنين كثيرة لرسم بعض أزهار المانوليا التي أحبّ ذلك أنه كما قال نزار:
" ليس سهلا في زمن القبح
أن أجمع أزهار المانوليا
والفراشات التي تخرج ليلا
من شبابيك العيون الماطرة "
لم يعد ذلك سهلا أبدا فزمن القبح أكثرَ من خلق العيون والأحرف الماطرة.