قائد الطوفان قائد الطوفان

صاروخ وزنه طن.. طحن جسده

تسع سنوات.. "سوار" بتعطينا "العسل".. وقبر رمزي لبابا همّام!

صورة
صورة

غزة-أمل حبيب

ذهابًا وايابًا لم تنطق شفتاها طيلة الطريق، فجأة أسرعت خطواتها وسبقت أحفادها وهي تنادي عليهم "هناك همام.. شايفين هناك".

إصبع السبابة كان يشير صوبه، وخطواتها كانت تسرع للقائه، لم نلحق بها خوفًا من كسر خلوتها بابنها الغائب، كانت تتمتم ثم تختم "يا رب".

رهبة اللقاء تبددت فجأة بعد أن أخبرته برضاها عنه، ثم سرعان ما طمأنته: "تخافش يمه على اولادك صاروا شباب بيرفعوا الراس".

مسحت بيمينها على شاهد القبر الذي كُتب عليه "الشهيد همام عيسى"، وطلبت من حفيدها ياسر أن يساعدها على الوقوف، عم الصمت قليلًا، ثم قالت "مع السلامة يمه"!

حكاية همام ابن مخيم البريج لن تمسي حدثًا عابرًا، فحجم الصاروخ الحربي (الإسرائيلي) الذي تجاوز الطن بوزنه، حوّل الشهيد الى أجزاء من السنتيمتر تناوب على انتزاعها الجيران من جدران المخيم لتصبح قبرًا رمزيًا تجاوز عمره التسع سنوات!

على كتف بابا!

"سند الإسلام" الطفل الأوسط للشهيد، حقيبته كانت على ظهره الرياضية وضعها على الأرض، وسلّم مُرحِّبا بنا، ثم جلس في المقعد الفارغ على يمين جدته.

"سوار العسل" الابنة الوحيدة، وضعت ربطة شعر وردية اللون، وانشغلت قليلاً بترتيبها على رأسها، ثم ابتسمت كذلك للكاميرا قبل أن نبدأ التصوير.

"ياسر" 14 عامًا الابن الأكبر للشهيد، كان متزنًا بعض الشيء، بان لنا أكبر من عمره وهو يتحدث عن والده الشهيد، كان يحاول البقاء صلبًا دون رعشة أو دمعة، انهار فجأة وبكى بصوت مرتفع حين استحضرت ذاكرته مرافقته لوالده، وقال:" كان بابا يحملني على كتفه بكل المناسبات وبجنازة الشهدا صحابه.. كنت دايما معاه".

حسنًا، أم الشهيد همام لم تتوقف عن البكاء طيلة اللقاء بها، لا يمكن لنا أن نصل لذاك الشعور الذي سكنها منذ السابع من يناير لعام 2009، أو بتلك النار التي اشتعلت داخلها لأنها لم تودع جثمان ابنها أو تطبع على جبينه قبلة كما تفعل الثكالى في فلسطين!

لم يعد لحروف الضاد أن تصف انطفاء قلبها حينما أبعدوها عن ركام المبنى الذي سوي بالأرض فوق ابنها، وقد يأتي أحدهم ليسأل:" مرت تسع سنوات على العدوان (الإسرائيلي) الأول على غزة.. أما جف دمعها!

ترد أم همام على كل الأسئلة من حولها:" لا شفته ولا ودعته.. دموعي حسرة تسع سنين"، تمسح وجهها بمنديل أبيض وتكمل عن المشهد الأخير لها مع همام وهو ينادي على الجيران ليخرجوا من المبنى المهدد بالقصف، "كان يدق على البيوت، كان خايف عليهم (...) أصعب شعور بكل حياتي لما استشهد همام وما رجع على كتاف صحابه"!

طيلة جلوسنا في بيت الشهيد كانت أمه تبكي بخشوع، بكاؤها كان يزيدها وقارًا كما أمهات الشهداء حتى وإن مر على الرحيل أعوام!

سوار نحلة!

اسم صغيرته التي عاشت تحت ظلال "بابا" فقط لعام ونصف، هو ذاته الاسم الذي تعلق به الشهيد لـ"نحلة" في مسلسل كرتوني كان المفضل لهمام في طفولته.

النحلة التي عاشت طيلة حلقات المسلسل وهي تسعى للبحث عن أمها، كانت تواجه العقبات وحيدة، وتتحدى الآلام، لكنها لم تيأس يومًا، وكانت تحيا على موعدٍ للأمل بلقاء.

مازحنا ابنة الشهيد:"انتِ نحلة بتعطينا العسل"، ثم أخبرناها بأنها كانت تبحث عن أمها لربما لتعطيها من العسل، ففاجأنا شقيقها سند بتعليقه: "هلقيت سوار تبحث عن أبوها"!.

لا ندري إن كانت الصورة الأخيرة لهمام هي ذكرى مبهجة بالنسبة لـ"سند" 12 عامًا، لأنه الوحيد من شاركه فيها، أم أنها سبب حسرة أبدية للطفل لأنه شارك والده الابتسامة داخل إطارها، واليوم يبكيه دون حضن واحد!

يوزع النظرات بين عدسة الكاميرا وبين الصورة:" الصورة قبل استشهاد بابا بساعة، صورنا إياها جارنا، لما بابا حضني وصرت أضحك".

خلال التسع سنوات لم تغب الضحكة كذلك من بيت الشهيد، فأرملته استندت على أمه حتى نضجت مواهب أطفاله الثلاثة، فياسر بات يعرف عن نفسه بأنه مصور فوتوغرافي هاوٍ، حيث لاحظنا اقترابه من مصور "الرسالة" طيلة فترة تواجدنا، كان يسأله عن أنواع العدسات، أما الصغيرة سوار فتجيد التمثيل وإلقاء الشعر، وأخبرتنا قبل المغادرة أنها مثلت دور الأمير وكانت صاحبة المملكة وتصدت للوحوش والأشرار، في حين تحدث "سند" عن حلمه بالانضمام لمنتخب فلسطين لكرة القدم بعد أن بات لاعبًا محترفًا كما تقول والدته وتفتخر به.

لم تنكر الطفلة سوار "اشتقنا لحضن بابا"، فتبعها سند "حرمونا كلمة بابا راح نحرمهم كل اشي بحبوه" وختم الحديث ياسر" راح نرفع راسه وأكمل تعليمي وآخد بثار أبوي".

البث المباشر