تعج شبكات التواصل الاجتماعي بين الحين والآخر بصور مؤلمة لضحايا شجارات طلبة المدراس والتي تفضي في بعض الأحيان إلى جروح غائرة وحتى القتل.
التنمر، التسلط، الاستئساد، الاستقواء، مصطلحات مختلفة تصف حالات العنف التي تغزو المدارس وباتت حديث الشارع الغزي بعد زيادة وتيرتها وبلوغ عدد الحالات الخطيرة منها خلال العام 2017م نحو 117 حالة حسب مصادر في الشرطة.
"الرسالة" حاولت البحث خلف الحالات لمعرفة أسباب حدوثها خاصة وأن ضحاياها أطفال ومراهقون من مختلف الطبقات الاجتماعية والعمرية.
وصلت للقتل
أخطر الحالات وآخرها انتشارا كانت بدايتها مجرد شجار بين طالبين في مرحلة الثانوية داخل أسوار المدرسة إلا أنه تطور لينتقل للخارج ويتحول لجريمة قتل.
الشجار الذي نشب بين الطالبين تعرض على إثره الطالب "م. ن" (17 عاماً) الذي كان يسير برفقة شقيقه الأصغر في منطقة "الفالوجا" لاعتداء من زميله بآلة حادة تبعا للشجار الذي وقع بينهما داخل المدرسة، ما أسفر عن مقتله على الفور وإصابة شقيقه بجروح بالغة.
تداعيات الحادثة ما زالت متواصلة حتى وقت كتابة سطور التحقيق ما يعني أن العنف بين طلاب المدارس أصبح مشوهاً للعملية التعليمية، ووصل لحد تدمير أسر بكاملها ما يستوجب تدخلا سريعا وعلى أوسع الأطر.
وللوقوف على أهم أسباب العنف بين الطلبة، تواصلت "الرسالة" مع الدكتور بسام ناصر طبيب الأسرة الذي أجرى دراسة حديثة حول موضوع العنف المدرسي واعتبر أنه يبدأ مع الأطفال في سن مبكرة بشكل صامت حيث يخزن الطفل من عمر العامين كل ما يراه داخل المنزل، موضحا أنه بمجرد اختلاطه مع الأطفال في سن الروضة يبدأ في اسقاط ذلك على أقرانه.
والأخطر في الأمر أن بعض الأطفال يسقط ما يشاهده عبر التلفاز والانترنت من أفلام تضم مشاهد عنف على زملائه ومن حوله من باب التجربة والتقليد، بحسب ناصر.
ويرى أن المسئولية تقع على المنزل والروضة وحتى المشرف في متابعة الحالات منذ الطفولة منعا لتفاقمها، مشيرا إلى ضرورة وجود مشرفين تربويين في الروضات وهو الشيء المفقود بشكل كامل رغم أهميته في اكتشاف مواطن الخلل لعلاجها بشكل مبكر.
وتمتد الأسباب إلى الدلع الزائد في التربية البيتية وحب النفس الزائد، وكذلك التفكك الأسري الذي ينعكس على الطفل بالشعور بالنقص، فيسهل على رفاقه الايقاع به واستخدامه كضحية لفرض تسلطهم وسطوتهم عليه، كما أورد الدكتور ناصر.
معدة التحقيق توجهت لمديرية شمال غزة والتي شهدت حالتي قتل بسبب العنف المدرسي بين الطلبة والتقت نفوذ العطل رئيس قسم الإرشاد التربوي في المديرية حيث قالت: "إن وتيرة العنف زادت خلال الفترة الأخيرة"، موضحة أن العنف لا يقتصر على القطاع بل في العالم.
وتعتبر أن أول مسبب للعنف في غزة هو الاحتلال الذي يعنف المجتمع منذ 1948 م، مشيرة إلى أن الأطفال نشأوا على الحروب والانقسام وسوء الوضع الاقتصادي.
وتؤكد العطل أن حالتي القتل لم يكن لها أي أساس داخل المدرسة وجرت خارج أسوارها، لافتة إلى أن المشرفين يعملون على الوقاية والعلاج، وتابعت أن مدارس شمال غزة نفذت حملات تسامح بين الطلبة كإسعاف أولي بعد حالتي القتل لتفادي ردة الفعل بين الطلبة.
قصور في العلاج
عنف.. جروح.. غرز.. مستشفى.. وشرطة، ملخص لتجربة قاسية ضحيتها طالب في الصف السادس الابتدائي حين أصابه زملاؤه في المرحلة الإعدادية بجروح في وجهه بشفرة الحلاقة داخل أسوار مدرسته في المنطقة الوسطى بعد خلاف على لعبة كرة القدم.
محمود عبد السلام والد الطفل الذي تعرض للعنف قال إن ابنه أصيب في الوجه، مبيناً أن 4 طلاب اعتدوا عليه داخل أسوار المدرسة، متهماً إدارة المدرسة بالتقصير في متابعة الطلبة أثناء تواجدهم في الفسحة المدرسية.
وأكد أن المستشفى صنف الحالة كحادث عرضي بعد الحديث مع وكيل المدرسة الذي اصطحب ابنه للمستشفى، مبيناً أنه حول الحالة لاعتداء وتقدم بشكوى لدى وكالة الغوث، والشرطة.
واشتكى عبد السلام من تقصير الوكالة، موضحا أنها أقدمت على زيارته بعد يومين من الحادثة وطلبت منه التنازل عن الشكوى مقابل التكفل بعلاج الطالب إلا أن ذلك لم يحدث مما اضطره لنقل ابنه من المدرسة.
أحد المعلمين للمرحلة الابتدائية فضل عدم ذكر اسمه خوفا من المساءلة اشتكى من النظام المعمول به في وكالة الغوث في دمج المرحلتين الابتدائية والإعدادية في ذات المدرسة.
ويقول أستاذ المرحلة الابتدائية: "إن الحكومة أنهت العمل بهذا النظام خاصة وأن فرق العمر كبير لذا فإن الطفل في سن المراهقة غير مؤتمن على الأطفال في المرحلة الابتدائية".
ولفت إلى أن العنف يعتبر أقوى في حال كانت المدرسة مختلطة بين مرحلتين لأن الأطفال يتعلمون العديد من السلوكيات الخاطئة من زملائهم في سن المراهقة، كما أن بعضهم تعرض لتصرفات شاذة على يد أقرانهم المراهقين.
"الرسالة" بدورها توجهت لإدارة التعليم في وكالة الغوث للحديث عن شكاوى عدة وصلت لها عن تجاوزات وحيازة أدوات حادة داخل أسوار المدرسة والتقت الدكتور ناصر أبو شقير القائم بأعمال مدير منطقة تعليمية شمال رفح، حيث أكد أنهم يقدمون خدمة التعليم لـ250 ألف طالب من الفصل الأول وحتى التاسع، مشيرا إلى أن العنف جزء من المشكلات التي يعاني منها المجتمع وليس طارئا يحدث داخل المدارس فقط.
وأوضح أن الأوضاع الخارجية الصعبة تنعكس على الطلبة ولا يمكن عزلها عما يحدث داخل المدرسة، لافتا إلى أنهم يتبعون إجراءات وقائية، ورقابية، وكذلك متابعة بعد الحدث، مبينا أن عدد حالات العنف متدرجة ومختلفة بين مكان وآخر.
وبحسب شقير فإن وكالة الغوث انتهت من دراسة العنف بشكل عام سواء بين الطلبة أو من المعلمين، واولياء الأمور وخرجت بتوصيات على مستوى عمل الوكالة في كافة المناطق، مبيناً أن الوكالة تعكف على تنفيذ حملة بعنوان "مدارس ومجتمع بلا عنف".
ولا ينكر وجود العنف وازدياد الحالات تبعا لصعوبة الوضع الخارجي وهو ما يفرض تحديات على مدير المدرسة، خاصة وان تحقيق تطور في التعليم مرهون بالبيئة المدرسية السليمة، معتبراً أن المدارس الإعدادية تشهد عنفا أكثر، و"هذا لا ينفي وجود عنف في مدارس الطالبات لكنه يختلف في الشكل".
وعلى صعيد الوقاية يقول مدير المنطقة التعليمية برفح أن المدارس لديها أدبيات في كيفية التعامل مع العنف من خلال صندوق القيم وجلسات التوعية للطلبة وذويهم لاكتشاف علامات ممارسة العنف على الطفل، والجلسات الهادئة والرحلات مع مشرف المدرسة.
وبحسب وكالة الغوث فإن حالات العنف البسيطة تعالج في إطار المدرسة، مشيرة إلى أنها لا تبلغ الشرطة ومن يقوم بهذه المهمة والد "الضحية" في حال أراد ذلك.
وحول الحديث عن تواجد المعلمين أوقات الفسحة، قال شقير: "لا توجد مدرسة دون مناوبين لكن نسبة المعلمين مقارنة بعدد الطلبة لا تسمح سوى بوجود معلمين أو ثلاثة لمراقبة ألف طالب على مساحات واسعة وبالتالي العملية ليست سهلة".
وأضاف "المراقبة جيدة لكن التوعية الأهم من خلال الأنشطة التي لا تسمح بوجود العنف".
وعن المدارس المختلطة بين الابتدائية والإعدادية أقر شقير أن وضعها غير سليم والمخاطر فيها أكبر، مؤكدا أنها يضطرون لها في الأماكن النائية وفي أقل حدود.
وتصنف كالة الغوث العنف المسبب للأذى من "مخالفات المستوى الثالث" ويعقد لأجلها مجلس الضبط ويتخذ إجراءات بحق المعتدي أهمها إبعاده عن المدرسة لمدة زمنية حفاظا عليه.
ويؤكد شقير أن الوكالة تعتمد في علاج الحالات على مستشفيات وزارة الصحة وهي بدورها من تتكفل بعلاج المعتدى عليه وتعمل له اللازم.
الظاهرة بازدياد
وبالبحث والتحري تراكمت المعطيات لدى معدة التحقيق وتلقت تأكيدات من عدة جهات رسمية واهلية بزيادة نسبة حالات العنف داخل المدارس وعلمت من مصادر خاصة أن الشرطة سجلت 22 حالة خطر خلال الشهرين الماضيين من بينها حالتي قتل، فيما لاتزال 7 حالات تتلقى العلاج داخل المستشفيات حتى وقت كتابة سطور التحقيق.
وبالحديث مع عدد من الطلبة في المرحلتين الإعدادية والثانوية أكدوا أن امتحانات نهاية العام هي فرصة للكثير من المشاكل المؤجلة بين الطلبة وتصفية الحسابات التي يستخدم فيها غالبيتهم الأدوات الحادة لضمان انتهاء الفصل الدراسي وعدم المساءلة.
وذكر أحد الطلبة لمعدة التحقيق أنهم باتوا يستغلون أي أدوات حادة حتى المساطر الحديدية مما دفع المشرفين لمنعها.
والدة أحد الطلبة في الصف الثالث استغربت من طلب ابنها اقتناء "موس" اقتداء بعدد من زملائه في المدرسة.
وتقول أم أحمد رجب أنها لم تتوقع يوما أي يطلب منها أبنها الهادئ بطبيعته هذا الطلب، مشيرة إلى أنها اكتشفت أن ابنها رآه مع أكثر من زميل له في المدرسة لذا يحاول اقتناءه من باب الاكتشاف والتقليد.
ويستغرب أحد المعلمين الذين قابلتهم الرسالة من الحال الذي وصل إليه الطلاب حتى في المرحلة الابتدائية، فبعضهم يلجأ لاستخدام اقلام الرصاص حادة الطرف لإيذاء زملائه وهو ما ينم عن مؤشرات خطيرة تستوجب دق ناقوس الخطر.
حالة اعتداء أخرى نقلتها الرسالة توفي على إثرها الفتى جهاد إياد محرم 17عاما"، على يد أحد زملاءه شمال القطاع بعدما تعرض للضرب بقضيب حديدي على خلفية تبادل الشتائم على صفحات الفيس بوك.
وعلمت "الرسالة" من مصادر خاصة بالشرطة أن أكثر حالات العنف المسجلة هي من مدينة رفح وتليها المحافظة الشمالية فيما تعد مدينة غزة الأقل في الحالات.
وفي ذات المضمار سلكت معدة التحقيق طريقاً آخر للبحث عن مسببات العنف ووجدت أن تدخل رجال الإصلاح في حل بعض مشكلات العنف وخاصة الخطيرة منها ينعكس بشكل سلبي على حلها.
ووجدت "الرسالة" أن تدخل رجال الإصلاح ينهي القضية دون البحث في جذورها وحلها من قبل إدارة المدرسة وهو الأمر الذي أكده الدكتور ناصر طبيب الأسرة ومعد الدراسة، معتبرا أن تدخل رجل الإصلاح يعني اغلاق القضية دون البحث في اسبابها وهو الأمر الذي سيؤدي لتكرارها لغياب الرادع.
ويذكر أن الوزارة كذلك مقصرة في البحث عن المسببات وأن جل اهتمامها في حماية المعنف ورفع الأذى عنه دون الخوض في التفاصيل.
ولا تقتصر المخاطر على ما سبق بل إن الكثير من حالات العنف في بعض المناطق تتطور لتتحول لمشاكل عائلية تستمر ويصبح ضحاياها أكبر من إطار طلبة المدرسة.
ردة فعل عنيفة
محاولة "الرسالة" البحث في المزيد من تفاصيل القضية ومسبباتها دفعتها للحديث مع المرشد التربوي فادي عابد الذي ذكر أن العنف في ازدياد بين الطلبة وهو ما يظهر في الاستشارات السريعة وردة الفعل لأي مشكلة بطريقة العنف.
ويرى أن فترة المراهقة الممتدة من الصف الثالث الاعدادي للمرحلة الثانوية هي المرحلة الأخطر التي تظهر فيها ملامح العنف بشكل أكبر على الطلبة، مشيرا إلى أنها مرحلة تخبط وصراع وعدم سيطرة على التفكير وهو ما يؤثر على السلوك ويزيد حالات العنف.
وأشار إلى أن غياب القدوة والظروف الاقتصادية التي امتدت لـ10 سنوات خلقت ردة فعل عنيفة لدى الطلبة، وفق تقديره.
ويرى المرشد التربوي أن الحل يكمن بحلقة كاملة ولا يقتصر على المدرسة، فالعلاج تشاركي ما بين المنزل والمدرسة والمسجد.
وحول دور المدرسة في الحد من انتشار الأدوات الحادة، قال عابد أن قانون الانضباط المدرسي يحظر على أي طالب جلب أدوات حادة للمدرسة وعند وجودها تصادر ويحضر ولي الامر لينبه شفويا، وفي جال تكررت الحادثة ينبه خطيا، أما المرة الثالثة فتستوجب نقله من المدرسة.
في المقابل معلم المرحلة الابتدائية رأى أن العنف يزداد وتتطور أساليبه كلما كبر الطفل، معتبرا أن أساس العنف المنزل والطالب يسقطه على زملائه.
ويستغرب المعلم من كمية العنف التي يتعرض لها الأطفال من والديهم في المنزل، مشيرا إلى أن حالات مرت عليه تعرض فيها أطفال للحرق معاقبة على أخطائهم.
"الرسالة" وأثناء البحث وجدت أن حالات العنف التي يتعرض لها الأطفال على يد ذويهم في المنزل بازدياد كذلك وهو الأمر الذي يدفعهم لإسقاط العنف على من حولهم.
ويشتكي المعلم من قلة الإمكانيات المتوفرة للمرشد التربوي داخل المدارس، موضحا أن غرفة المرشد غير مؤهلة لعلاج الطلبة فهي "عبارة عن مكتب يفتقد لوسائل الراحة والترفيه والتحفيز للطلاب".
الوزارة تتابع
وزارة التربية والتعليم أكدت انها تتابع القضايا السلوكية الخاصة بين الطلبة، معتبرة أن علاج العنف وجميع المشاكل السلوكية هو جزء من خطتها في الميدان.
وذكر الدكتور أحمد الحواجري مدير دائرة الارشاد في وزارة التربية والتعليم أن لديهم سياسة لمواجهة العنف أحد مرتكزاتها الأساسية البحث عن البدائل التربوية للتعاطي مع الطلبة ومعالجة كل الإشكاليات ورصدها وتقسم الإشكاليات لفئات وكل فئة تقابلها العقوبات من خلال مجلس النظام المدرسي.
ويقوم مجلس النظام المدرسي الذي يضم المرشد بصفته مستشارا فيه بمتابعة القضايا ليبدأ دور التوعية والإرشاد قبل تفاقم المشكلة، واحتياجها للعلاج.
ولفت إلى أن وزاته تعي خطورة القضية وتتابعها بشكل إداري وعلى أعلى المستويات للحد من انتشارها، معتبرا أن العنف يزداد بحسب المرحلة ويختلف من جنس لآخر فكل فئة تختلف مشكلاتها ما بين الطفولة والمراهقة وطرق التعبير عن العنف ترتبط بالخصائص النمائية.
ورفض الحواجري تصنيف العنف في المدارس على أنه ظاهرة رغم إقراره بزيادة الحالات التي أرجعها للوضع الاقتصادي والسياسي الذي يلقي بظلاله على كل المجتمع ومن ضمنه المدرسي.
وتجد وزارة التربية والتعليم أن المشكلات تزداد في أوقات معينة كالحروب والضغط الاقتصادي، إلا أن الحواجري يؤكد أنه "ليس هناك ما يقلق الوزارة من إمكانية خروج الحالات عن السيطرة وازديادها بشكل خطير".
وعن دورهم في تتبع الحالات التي تصل للمشفى قال إن المهمة تصبح لدى الشرطة، منوها إلى أن وزارته تشدد على عدم احضار الأدوات الحادة للمدرسة.
في المقابل ذكر الحواجري أنهم لا يتدخلون في المشاكل التي تحدث في المدارس التابعة لوكالة الغوث "فهم يعطونها مساحة كاملة لتطبيق أنظمتها وقوانينها".
رد الحواجري استغربته "الرسالة"، خاصة أنه من المفترض أن تسير وكالة الغوث على ذات القوانين التي ترسمها الوزارة، وهو ما يستوجب تعاونا ودورا رقابيا وإرشاديا في القضايا الشائكة ذات التأثير على المجتمع.
ويظهر تزايد حالات العنف داخل المدارس، وان كانت انعكاسا للأوضاع المعيشية، قصورا في حملات الوقاية التي تحدثت عنها الجهات الرسمية وهو الأمر الذي يتطلب تكثيف الجهود من قبل المعنيين لمعالجة الخلل قبل فوات الأوان خاصة أن طلبة المدارس هم نواة المجتمع وعماده مستقبلا.