"أعواد القرفة والميرمية التي تحترق على النار ورائحة الششبرك والرقاق" بعض من ذكريات نابلسية لم تغب عن بال الأربعيني "محمد يوسف" الذي قضى طفولته في حارة الحبلة بالبلدة القديمة النابلسية.
"ذكريات الطفولة في الحارة القديمة تكاد تبكيني حين تأتي نسائمها أمام ناظري"، يحكي "يوسف" بتوجع، متمنيًا أن تعود أيام الصبا والطفولة ولو يومًا واحدًا: "صناع الحكايا والأسرار راحوا والأيام الحلوة راحت وضلت ذكرياتها تكوينا".
في حي الحبلة، شمال شرق البلدة القديمة، عاش النابلسي "يوسف" أجمل أيام عمره كما يقول، بنيت شوارع الحي على طريقة الحبلات أي مجموعة من الحجارة تسند بعضها بعضاً من أجل أن يكون بناء الحائط بطريقة عفوية، يتفرع عنه عدة حارات مثل جورة الفقوس.
بائع الكاز الذي كان بقي يلف في حارة الحبلة لسنوات طويلة، يرتد صدى صوته في أذنه كلما اقترب الشتاء، يروي: "كان للشتاء طقوس مميزة في البلدة القديمة وكنا ننتظره بفارغ الصبر"، ويكمل: "من الفجر كنا نستيقظ على صوت بائع الكاز الذي لم تكن أي عائلة نابلسية تستغني عنه لاسيما في الشتاء".
كما أن اجتماع العائلة والتفافها حول الصوبة مساء، كانت من الطقوس التي لم يغب جمالها عن باله، فما إن يأتي المساء تشعل أمه الصوبة وتسرد لهم حكايات "أمنا الغولة ونص نصيص وأبو رجل مسلوخة" وغيرها من الحكايات الشعبية التي كانت تسلب عقولهم وقلوبهم وتستحوذ على تفكيرهم قبل أن يكبروا ويكتشفوا أنها قصص خيالية.
لحظات كثيرة كان "يوسف" وإخوته يسترقونها من وراء أمهم في أزقة حارة الحبلة، فكانت تمنعهم منها تخشى عليهم من البرد، أما بالنسبة لهم فكانت بمثابة طاقة إيجابية يستمدونها من جدران البلدة القديمة المطوبة بالأحمر، يتابع: "كنا نرسم على بخار زجاج النوافذ أسماءنا ثم نمسحها ونعيد الرسم بنفخة من أنفاسنا"، عدا عن اجتماعهم حول راديو جارهم "أبو فتحي" يستمعون لأغاني فيروز.
في مرتع شبابه وطفولته تجول بنا النابلسي "يوسف" في أزقة حارة الحبلة، والتي تضم حجارة فيها اقتباسات شهامة وبطولة الأجداد والآباء، وبها مبانٍ تؤصل عراقة نابلس.
قصر النمر في الجهة الشمالية الشرقية من حارة الحبلة، يتربع على الأماكن الأثرية فيها، يعتبر القصر لوحة تاريخية ماثلة وشاهدة على عراقة الدولة العثمانية، حيث بني في القرن السابع عشر الميلادي، كان حينها عبد الله باشا النمر واليا على نابلس، وكان قائدًا للحملات العسكرية التي أرسلتها الدولة العثمانية لقمع الفتن الداخلية، ولتوفير الأمن للمنطقة.
إلى قسمين ينقسم قصر النمر: شمالي يسمى "القصر الصيفي"، وجنوبي وهو القصر الكبير يؤدي إلى مدخل كبير الحجم، ويتكون من طابقين الأول عبارة عن ساحة مكشوفة وبركة ماء وإسطبلات للخيل، والثاني يتكون من مجموعة من الغرف مقسمة إلى جناحين، جناح خاص بالحريم "حرملك"، وجناح خاص بالرجال "السملك".
كما ينتصب مقام الشيخ مسلم شامخًا في الزاوية الشرقية الشمالية من الحبلة، يقول: "يعود للشيخ مسلم حفيد الشيخ مسلم الصمادي الكبير"، ويتابع جولته: "وسط حارة الحبلة توجد الزاوية البسطامية، وهي عبارة عن غرفة صغيرة يصعد إليها بدرج إلا أنها حولت إلى دار للسكن مؤخرا".
وراح يصف حمام الخليل، حيث يقع على الطريق المؤدية لحارة الحبلة أمام المدخل الشرقي للجامع الكبير، يحكي: "يتكون من ثلاثة أقسام هي: غرفة الاستقبال، وغرفة المشلح الشتوي، وغرفة الاستحمام".
يختم "يوسف" جولته بقوله: "في كل حارة من حارات البلدة القديمة لنا شغب وشغف، حيث شقاوة الطفولة التي كنا نطلقها في الأزقة القديمة وشغف الشباب الذي كان مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بحبنا وانتمائنا الكبير لنابلس".