لم يكن الحوار مع أسير أربعيني قضى نصف عمره وراء القضبان، بالأمر السهل، وهو الذي يتجرع من حسرة فراق الأهل، ومن عذابات السجان قسطًا كبيرًا، إذ تجد نفسك في دوامة كبيرة كيف ستبدأ أسئلتك وكيف ستختمها!
فلم يكن الحديث عن عشرين عامًا هو الصعب، بل الحوار مع أسير محكوم بمؤبدات كثيرة ليس هينًا، حين تتقزم أسئلتك أحيانًا مع إجاباته، وتنصدم أحيانًا أخرى من حجم الأمل بداخله، كما الألم أيضًا.
عبر رسائل ورقية وصلت مراسلة "الرسالة" يبوح الأسير القسامي عمار الزبن بأسرار عشرين عامًا قضاها متنقلًا بين سجون الاحتلال ما بين أنين الشوق وانتصاراته على (إسرائيل).
فعشرون عامًا لم تكن رقمًا عابرًا في يوم من الأيام، كما لم يكن الزبن مجرد رقم في عد الصباح، هذا الأسير الذي لم ينس أنه مقاوم حتى داخل زنزانته، فهو الأديب الذي جاهد بقلمه، ومن أنجب بنطف مهربة طفلين يتحدى بهما مؤبدات العدو.
وضيفنا الذي بدأ الحديث بالتعريف عن نفسه هو عمار حمدان الزبن، وُلد على قمّة جبل جرزيم في مدينة نابلس عام 1975، وله من الإخوة أربعة، استشهد أخوه الأكبر بشار عام 1994م بعد تحرره من الأسر، وحصل على شهادة البكالوريوس في العلوم السياسية من جامعة القدس "أبو ديس".
كما أنه متزوج وله من الأبناء أربعة: بشائر النصر، كانت ابنة عام ونصف لدى اعتقاله الراهن وهي الآن في السنة الجامعية الأخيرة، وبيسان التي وُلِدت بعد اعتقاله الراهن بثلاثة أشهر وتدرس الهندسة، أمّا مهند ابن الخمسة أعوام فكان أول سفير للحريّة، وتبعه صلاح الدين بسنتين.
تم اعتقاله لدى عودته من الأردن، وكانت المرة الأولى التي يغادر فيها فلسطين، مدّة خمسة أيّام فقط، يقول: "لم أكن أدري أنّ العدوّ قد أمسك بطرف خيطٍ يقود إليّ".
ففي الحادي عشر من يناير عام 1998 كان في أقبية التحقيق، يحكي عن أساليب التحقيق التي اعتمدوها معه: "العنف الجسدي من كسر الظهر أو أسلوب الموزة، والخنق دون قيود، إضافة إلى أساليب أخرى كالشبح والمنع من النوم لأيامٍ عدّة وصولاً للهلوسة"، حيثُ مكث هو والمجاهدان معاذ بلال الذي يماثله الحكم والأسر، والشهيد المهندس أيمن حلاوة الذي أطلق سراحه لاحقاً، مدة شهرين ونصف في زنازين التحقيق.
حُكِم "الزبن" ستّة وعشرين مؤبداً وخمسة وعشرين عاماً، بتهمة المشاركة في التخطيط والتنفيذ لعدّة عمليات للمقاومة في إطار "كتائب القسّام"، أبرزها عمليّتا سوق محني يهودا وشارع بن يهودا في القدس المحتلة، حيث قُتِل فيهما عشرون صهيونيا وأصيب المئات، وفي عام 2014 زاد على حكمه عامين إضافيين بتهمة تجنيد مجاهدين لأسر جندي.
كانت "الرسالة" تعلم أن الحديث عن المقاومة المسلّحة التي شارك بها يحتاج إلى كثير من السطور والوقت، أما عن أبرز الأحداث التي مروا بها بين عاميّ 1994-1998، فيقول: "أبرز حدث، عندما كنّا ننتظر قدوم الاستشهادي الثالث في عمليّة شارع بن يهودا التفجيرية، وكانت تلك مهمة قائد القسّام في مدينة نابلس آنذاك المجاهد خليل الشريف، ولمّا حانت لحظة الصفر ونحن ومحمود أبو هنّود ومهند الطاهر على أعصابنا، تفاجأنا دون سابق إنذار أنّ الاستشهادي لم يكن غير القائد ذاته خليل الشريف ولم يفلح أحد بثنيه عن ذلك".
أمّا الحدث الآخر، فكان بعد اكتشاف هويّات الاستشهاديين وأربعة منهم من عصيرة الشمالية، حيث لم يكونوا قد أعلنوا عن أسماء الاستشهاديين، حينها أصرّ المجاهد محمود أبو هنود على دخول القرية، ولم يفلح هو ومهند في ثنيه، فدخلها من الطرف الشمالي الشرقي لجبل عيبال ومكث يوماً كاملاً، وحدثنا عن رؤية الاحتلال وهو يهدم البيوت ويحاصر القرية وعن لقائه بأحد المجاهدين الأخفياء.
حدث بارز لم ينسه "الزبن" أيضًا كما يحكي، وهو إصرار المهندس أيمن حلاوة على تنفيذ عملية استشهادية بعد معرفة أمر تنفيذ القائد خليل الشريف لعملية بن يهودا إلى جانب الاستشهاديين يوسف الشولي وبشار صوالحة، لكنهم رفضوا ذلك وكان القرار صائباً، لأنّ أيمن حلاوة المهندس الثالث في كتائب القسام قاد العمل العسكري بداية انتفاضة الأقصى بعد تحرّره من الأسر، إذ لم يستطع العدو انتزاع الاعتراف منه.
والسؤال السابق قادنا إلى سؤاله عن أهمّ الملامح التي رافقت العمل العسكري في تلك الفترة، حيث تابع "الزبن": "في الفترة الأولى التي عملت فيها مع الدائرة المحيطة بالشهيد المهندس يحيى عياش عام 1994 كنّا نواجه خطر شاباك العدو ولكن بعد اعتقالي الثاني إدارياً لستة أشهر وعودة الاتصال مع الشهيد خليل الشريف أواسط عام 1996 بعد الإفراج، أصبحنا نواجه خطراً إضافياً مُمثّلاً بأجهزة أمن السلطة التي شنّت حرب اعتقالات في صفوف أبناء الحركة بعد عمليّات الثأر القسّاميّة للشهيد يحيى عياش، مما ضاعف الخطر عدة مرات على عملنا".
ورغم ذلك، استطاعوا التكيّف وترتيب أنفسهم، حيث لم يكونوا في تلك المرحلة يعملون بطريقة مركزة، وفي أواخر عام 1997 أرادوا تشكيل جسم موحّد في الضفة الغربية مع الشهيد عادل عوض الله، بواسطة المجاهدين محمود أبو هنود ومعاذ بلال، لكن المحاولة فشلت وتلقّى العمل العسكري فيما بعد ضربة قويّة أواخر عام 1998بعد استشهاد المجاهد "عوض الله".
كما أنّ من أبرز ملامح العمل في تلك المرحلة، بناء الفعل الجهاديّ على ردّات الفعل من جهة، ومن جهة أخرى فتح المعركة دون وضع خطّة تفضي إلى نتيجة توازن عمليّة على الأرض، فقد كنّا نركّز على ترسيخ قاعدة تبادل الرعب من خلال نقل المعركة إلى كل شبر من فلسطين التاريخية.
وهذا الأمر كما يقول استمرّ في انتفاضة الأقصى ولم يتم توجيه الجهد إلى التركيز التكتيكي في مستوطنات الضفة والقدس، على الرغم من الجهد المبارك الذي كانت تنفّذه الكتائب من شمال الضفة إلى جنوبها وبالتأكيد في المقدمة قطاع غزة الذي استطاع فيه المقاتلون_ بحكم الجغرافيا_ تركيز عملهم على المستوطنات، وبالتالي دحرها عن القطاع.
"كنتم أوّل من نجح في مشروع سفراء الحريّة؛ كيف كانت التجربة وشعورك عندما رُزقت بطفلين بعد سنوات طويلة من الأسر"، كان السؤال حاضرًا كما الصمود في حديث "الزبن"، حيث كان أول من نجح في تهريب نطف من خلف القضبان، فيعتبره فضلًا من الله ثمّ عزيمة وإصرارًا من صاحبة المشروع الحقيقية، زوجته التي ظلّت تطرح الأمر منذ عام 2002، حتى نضجت الفكرة لكليهما عام 2006 وحالت الظروف دون إخراجه إلى حيّز التنفيذ، فحاولا الزراعة عام 2011 وبعد محاولتَين لم تتكللا بالنجاح، حملت زوجته المحاربة بعد صفقة وفاء الأحرار التي رفض العدوّ إطلاق سراحه بها، فجاء مهند وبعد عامين جاء صلاح الدين.
يقول: "أمّا الشعور فلا يُكتَب بالكلمات وحسبي أنّي لحظة تهريبي للنطفة قد حرّرتُ جزءاً من روحي وجسدي خارج الأسر، وها هم سبعون من إخواني الأسرى أنجبوا رغم أنف المحتلّ".
لم نكن نتخيل أن سؤالنا لـ "الزبن" عن أكثر لحظات الأسر حزنًا بالسؤال أصعب، حيث قال: "سؤال صعب جدًا، فالأسر بحد ذاته حكاية حزن ممتدّة، لكنّ أحداثاً فارقة تترك أثرها عليك لزمنٍ بعيد كفراق الأحبّة، واستشهاد الوالدة في إضراب عام 2004، ورحيل رفيق العمر "مهند الطاهر" و"محمود ابو هنود" و" أيمن حلاوة" و" الشيخ يوسف السركجي و" الجمالين" وغيرهم.
ويسترسل: "ولكن أقسى اللحظات التي لا تُنسى عندما غادرنا رفقاء السجن وبقينا خلف الأسوار، فلا الإنجاب أو أيّ أمر ممكن أن يُساوي الحريّة".
عقدان من الزمن قاوم بهما "الزبن" السجان بقلمه، فبعد اتفاقيّة أوسلو تحطّمت الحياة الثقافيّة في الأسر بفعل المفاهيم الجديدة التي حلت لدى مؤيدي الاتّفاق، وهذا مما ضاعف من الناحية الأخرى التركيز لدى حركة حماس على إحياء الموروث الثقافي لقيم الثورة والجهاد وتطوير عناصرها، ولكن مع تجديد أنماط التعليم وخاصة بعد دخول فضائية الجزيرة التي اختصرت الكثير من البرامج الثقافية والعلمية وغيرها، فكانت الدورات في شتى المجالات، ثم التعليم الجامعيّ.
كما كانوا أوّل من أدخل برنامج الدبلوم والبكالوريوس إلى السجون، بعد أن أوقف الاحتلال الدراسة في الجامعة العبرية المفتوحة، وكنت قد أنهيت عامين من الدراسة فيها، إلى أن توفّرت الظروف وأنهيتُ الدراسة في جامعة القدس أبو ديس بواسطة الدكتور مروان البرغوثي المحاضر السابق في ذات الجامعة، تابع حكايته.
أمّا عن الثقافة العامّة، فقد يراها "الزبن" أن الأمر تراكميّ، "يساعدك في ذلك الكم الهائل من الطاقات التي التقيناها ونهلنا من علمها المنوّع"، لكنّ أبرز أمر حدث له وحلم به منذ أن كان ينحت الكلمات على الورق ويخبّئها في حقيبة المدرسة، الأدب، فطالما حلم أن يصبح كاتباً، لذلك، عمل لتحقيق هذا الهدف وكتب في الجرائد وظل يراسل المجلات من داخل الأسر، فينشرون له، وكتب الأغاني لأطفاله والقصص الصغيرة، وغراميّات لزوجته، حتى تفجّر الأمر، بعد المطالعات الكثيرة والمحاولات الحثيثة، وخططتُ لأول محاولة روائيّة عام 2007.
كانت التجربة الأولى لـ "الزبن" رواية "عندما يزهر البرتقال"، وهي نتيجة استفزازٌ لدى رؤية والدة الشهيد أسيل عاصلة من شهداء هبة أكتوبر بداية انتفاضة الأقصى وهي ترجو قُضاة الاحتلال الذين جاؤوا للتحقيق في ظروف استشهاد ابنها وإخوانه، فلم يستمعوا لها، فحلم ليلتها ونزف الحلم بعد الفجر على الورق لتخرج الرواية الأولى بعد عدة أشهر من ذلك.
ثم جاءت الرواية الثانية "مِن خلف الخطوط" تسرد قصة أسر الجنديّ نحشون فاكسمان عام 1994، بثوب ثقافة تحرير الأسرى، وأخيرا رواية "الزُّمرة" عن خمسة من نخبة القسّام مكثوا أربعة عشر يومًا تحت الأرض في الحرب الأخيرة على القطاع عام 2014، في ظروف مُستحيلة، حتى حانت ساعة الصفر وأحدثوا مقتلة في العدو، وروايات أخرى لم تنشر بعد.
يقول "الزبن": "لكننا إلى اللحظة نفتقر إلى جهة رسمية تأخذ على عاتقها نقد وتصويب ما نكتب، حتى نُطوّر من أنفسنا، ولقد عرضنا الأمر على مجموعة كبيرة من الجهات والأدباء طوال السنوات الماضية، ولم نجد أذناً صاغية إلّا في حالاتٍ فرديّة وهذا الأمر يقودُ إلى أم المشاكل، النشر، فلا يوجد جهة تستطيع إيصال الكاتب إلى دار نشر ذات قيمة، وتتابع جميع التفاصيل اللاحقة فيلجأ الكاتب منّا إلى النشر الحزبيّ، وفي أحيانٍ كثيرة تذهب الحقوق نتيجة جشع بعض الناشرين".
كلمات تعني لـ"الزبن" الشيء الكثير قالها في حديثه: "المقاومة: شهادة الانتماء لفلسطين، والسجن: ليس للأحرار، النُّطَف المُهرّبة مقاومة من خلف الأسوار، فقد أحد الوالدين: ألمٌ في القلب فكيف إذا فقدتَ الاثنين، أوسلو: كارثة تاريخية، قوات قمع السجون: ليس لها حلٌّ إلّا حرّيّتنا، الخروج من الأسر: الخروج من القبر".
ويختم الزبن برسائل مقتضبة للقدس أولًا: أعتذرُ لكِ، ولترامب: شكرًا لقد أيقظت البعض، للمقاومة: أنتم الأمل، لكتائب القسام: رأس الحربة في معركة التحرير، لغزّة: أطفالكِ سيبولون على رأس مَن يخذِلُكِ، للضفّة الغربيّة: فتيانُها رجال لا تخضع، للفصائل الفلسطينية: ارفعوا الغطاء عن المنهزمين، للاحتلال: هزمَهُ الشهيد إبراهيم أبو ثريّا وصفعته عهد التميمي، للأمّة الإسلاميّة والعربية: القدس يبتلعها الحظر، لزوجته: أنتِ سيّدةُ العالم، لأولاده: سامحوني على الغياب، لأُدبَاء التطبيع: ستدوسكم عجلة التاريخ، للأسرى: سيصبحُ السجنُ ماضيا بإذنه تعالى".