عسرات الحياة بانت جلية على طريقة مشيته، اللافتة كانت بيمناه ملفوفة بشكل دائري، في حين حاول أن يسبق كل هَم يحاول أن يتجه معه صوب الوقفة الاحتجاجية!
تعثر الموظف أبو لطفي في طريقه بأطفال يحملون "طناجر" طعام فارغة تصطدم ببعضها فتصدر صوتًا يزعجه، ويكاد أن يصرخ في وجوه الجميع!
يعلم جيدًا أن حاله ليس بـأفضل من حال الغاضبين والمشاركين أمام مقر المفوض السامي للأمم المتحدة، وكل من حمل منهم" طنجرة" بعد إبلاغهم بوقف المساعدات الغذائية التي كانوا يتلقونها أسبوعيًا بقيمة 90 شيكلًا "25 دولارًا" لـ"الكابونة" ضمن برنامج الغذاء العالمي.
أمام شحوب وجوههم وقف أبو لطفي مطولًا، كان يطرح ثم يجمع ويقسم في عقله، عمليات حسابية اكتشف بعدها بأن 85 ألف فرد في القطاع لن يستطيعوا توفير غذاء لأطفالهم فمعظم هذه العائلات تفتقد لأدنى مقومات الحياة وتعتمد على المعونات الغذائية.
"لا تتركونا للجوع، لانعدام الأمن الغذائي، لا لسوء التغذية" كان يحاول أبو لطفي جاهدًا أن يترجم ما كُتب على اللافتات باللغة الإنجليزية إلى العربية، ثم يوزع نظراته عليهم ويتوقف على ذاك الرضيع الذي يعتصم بينهم!
والد الرضيع الذي كان يصرخ أمام عدسات الكاميرا تشكل له المساعدة الغذائية الأسبوعية ضرورة حياتية، كان يتساءل باستنكار "أبيع ابني عشان الأكل؟ (...) أغيثونا يا ناس بدي حليب للولد".
في الخامس والعشرين من شهر ديسمبر الماضي أبلغت العائلات برسائل نصية وصلت هواتفهم النقالة بأنه سيتم إيقاف برنامج المساعدات الغذائية التي كانوا يتلقونها بسبب نقص التمويل.
"لا نطالب من يخون أن يغيثنا" توقف جليًا أبو لطفي أمام هذه العبارة، كانت ترن في أذنيه، ثم تذكر فجأة الوقفة الاحتجاجية لموظفي غزة لمطالبة حكومة الوفاق الالتزام باستحقاقات المصالحة ودفع رواتب موظفي غزة.
ترك الطناجر الفارغة وصوت القرع عليها التي حاولت إيصال الرسالة، وحاول المغادرة مسرعًا من بين المشاركين صوب وجهته، كان على يقين بأن فترة شبابه قد ضاعت بين الخطابات والاعتصامات والطرق على جدران الخزان دون فائدة!
ضجيج طلبة مدراس الأونروا في الشارع الموازي لمخيم الشاطئ وازدحام حركة المركبات أعاقه بعض الشيء، ونوى في قرارة نفسه ألا يتوقف ليسأل عن سبب الازدحام، إلا أن صرخات الطلبة "إضراب .. إضراب" بالتزامن مع تطاير لافتات وقصاصات كُتب عليها "لا لسياسة التقليصات"، أعاده إلى ذاك الشريط الاخباري العاجل " تقليصات الوكالة ستفصل 600 موظف وتقطع "الكابونات" في غزة"!
تركهم جميعهم وآه واحدة زفرها حين استقبلته ابنة صديقه وبين يديها لافتة بيضاء قد كتبت عليها "عام على قطع راتب أبي!" خلال مشاركتها بالوقفة الاحتجاجية التي نظمتها نقابة الموظفين بغزة لمطالبة حكومة الحمد الله بالاعتراف بالحقوق الوظيفية وصرف الرواتب.
حاول أبو لطفي أن يحافظ على بقايا كبريائه، إلا أن دمعاته قد خانته بعد أن تخيلها ابنته فرح التي أوصته مؤخرًا بشراء حذاء شتوي برقبة طويلة، لتتمكن من الوصول للمدرسة رغم المطر!
لم يعد هناك داعٍ ليرفع أبو لطفي لافتته بعد أن بللتها قطرات المطر وبقي صوته مع الموظفين يعلو تدريجيًا كما الحسرة " لا لإذلال الموظف .. الراتب حق وليس منة"!