قائد الطوفان قائد الطوفان

عملية التجزئة طالت معظم السلع في القطاع

تجزئة السلع.. استغلال ظاهره مراعاة الفقراء وباطنه تحقيق لأرباح طائلة

صورة ارشيفية
صورة ارشيفية

غزة-شيماء مرزوق

 

لم تكن لتلفتك تلك الأكياس الصغيرة في محال البقالة المنتشرة في أرجاء القطاع لو لم تستبيح كل السلع حتى الأساسية منها، ففي الوقت الذي يتهاوى فيه الاقتصاد الغزي تحت ضربات الحصار والعقوبات على غزة ما أضعف القوة الشرائية لدى المواطنين، لجأ بعض التجار إلى تجزئة السلع.

والمقصود بتجزئة السلعة هو بيع بعض السلع وخاصة الأساسية منها في عبوات صغيرة بسعر شيكل واحد لتشجيع المواطن على شرائها.

عملية التجزئة في ظاهرها تخفف عن كاهل المواطن الفقير العاجز عن شراء كميات كبيرة من السلعة، لكن الإشكالية تكمن في الكمية التي تباع مجزأة والتي في الغالب لا تتناسب مع سعر السلعة الحقيقي، ما يثير شكوكا حول عملية تلاعب من بعض التجار في الأوزان التي يتم بيعها مجزئة بالشيكل، والتي تنطلي على خداع للمستهلك.

"البهارات، القهوة، زيت الزيتون، الصلصة، الطحينة، الأعشاب".. فالتجزئة طالت معظم السلع، وبقدر ما تعكس الواقع الاقتصادي الصعب فإنها تكشف استغلال التجار لهذه الظروف القاسية لمضاعفة الأرباح.

وقد جرى اللجوء إلى تجزئة السلع وبيعها بكميات أقل وأسعار أدنى في السلع الكمالية سابقاً مثل المكسرات والحلوى لتشجيع المواطن على شرائها لكن سرعان ما طالت عملية التجزئة باقي السلع خاصة الأساسية، وهي سياسة كان من الممكن أن تؤدي إلى التخفيف الفعلي عن كاهل المواطن لولا التلاعب بالكميات.

​حجم الأرباح يصل إلى أربعة أضعاف في بعض السلع

المشكلة ليست في عملية التجزئة ذاتها وإنما في التلاعب في الأوزان والمكاييل الذي يتعمده التجار لمضاعفة أرباحهم، حيث يجري وضع غرامات معدودة وبيعها بشيكل دون أدنى مراعاة للتوازن والتناسب في السعر بين المجزأ والجملة.

تلاعب الأوزان

"بشيكل واحد أشتري كيسا صغيرا من زيت الزيتون لإفطارنا الصباحي المكون من الفول والفلافل، فلا يمكنني شراء كمية كبيرة من الزيت بسبب سعره المرتفع"، هكذا بدأ المواطن محمود أسعد 35 عاماً (متعطل عن العمل) حديثه للرسالة قائلاً " أدرك أن الأكياس الصغيرة تكلفني أكثر لكني لا أملك أن أشتري زجاجة زيت في ظل هذا الوضع القاسي".

ويشير إلى أنه بات يعتمد على السلع المجزأة بشكل كبير نظراً لظروفه الاقتصادية الصعبة مثل القهوة والبهارات اللازمة لطبختهم اليومية.

بينما ترفض أريج عبد الهادي 33 عاماً ربة منزل اللجوء لهذه السلع إلا في مرات قليلة تكون مضطرة لها، فهي تعتمد على شراء السلع من السوق وبسعر الجملة قائلة "البهارات من السوق أوفر بكثير، وعندما أشتري كيس من الهيل اجد أن الكمية التي بداخله لا تكاد تتجاوز الملعقة الصغيرة، وكذلك الفلفل الأسود وهي بهارات أساسية لا نستغني عنها".

وتضيف "أشتري من السوق كميات كبيرة من البهارات، وتبقى عندي أشهر وبأسعار أقل بكثير من المجزئة".

القانون يعاقب على التلاعب بالموازين بالسجن لمدة عشر سنوات أو بغرامة عشرة الاف دينار

ويتعمد بعض التجار تجزئة السلع لإغراء المواطن البسيط على شرائها بسعرها المتدني في حين أنها تكلفه أضعاف سعرها الأصلي، إذ يتم التلاعب في وزنها وسعرها بما لا يتناسب مع قيمتها الأساسية لتعظيم الأرباح.

"الرسالة" اطلعت على عدد كبير من السلع المجزئة والتي باتت تباع في الأسواق بشكل لافت في الفترة الأخيرة نتيجة التدهور الاقتصادي، حيث أصبح الإقبال عليها كبيرا جداً.

والمراقب لتلك السلع يمكنه ببساطة أن يلاحظ اختلاف الأوزان في السلعة الواحدة بحسب كل شركة رغم أنها تباع بذات السعر، فمثلاً عبوة من نوع بهار واحد تجد أحياناً انها تحتوي على 5 غرامات وأخرى 8 غرامات، بينما في عبوة أخرى 12 غراما والاختلاف حسب كل شركة، وذات الملاحظة في القهوة التي قد تجد عبوة تحتوي على 12 غراما وثانية على 18 غراما وثالثة 20 غراما، وجميعها تباع بشيكل واحد، بمعنى أنه لا يوجد ضبط لعملية التجزئة من الجهات المختصة وتحديداً وزارة الاقتصاد.

وفي مثال بسيط على عملية التلاعب التي تجري فإن عبوة الزيت بوزن كيلو تباع بــ 15 شيكلا، بينما تباع ذات الكمية مجزأة للمواطن بقيمة 50 شيكلا، كما أن القهوة والبهارات التي في متوسطها تباع بمبلغ 25 شيكلا يصل سعرها مجزأ إلى أكثر من 100 شيكل بمعنى أنها تحقق أرباح 5 أضعاف.

الاقتصاد: لا نتدخل في الأسعار وحاولنا ضبط أوزان بعض السلع

فعلى سبيل المثال فإن الفلفل الأسود يتم بيع 9 جرامات بمبلغ شيكل واحد في حين أن الكيلو سعره 30 شيكلا أي أن الكيلو مجزأ سعره يصل إلى 110 شيكل.

وطالت عملية التلاعب باقي السلع مثل الطحينة التي يباع الكيلو منها بسعر 4 شيكل، بينما يباع مجزأ بسعر 14 شيكلا، في حين أن الصلصلة سعرها 4 شيكل وبعد التجزئة يصل سعرها 14 شيكلا.

وتشير المعلومات التي تحصلت عليها "الرسالة" عقب عدة جولات على الأسواق أن عملية التجزئة تزيد من تكلفة المنتج بالنسبة للتاجر الرئيسي، وهو ما يعني أنه من الطبيعي أن يكون هناك فرق في السعر بين المجزأ وغير المجزأ لكن فرق الأسعار في النماذج المذكورة يؤكد أن ارتفاع الأسعار يتجاوز بكثير سعر التكلفة والهدف منه خداع المواطن لمضاعفة الأرباح.

ولا يقتصر الأمر على مستوردي السلع، إذ وصل حتى أصحاب محلات الأكلات الشعبية والتي باتت تقوم بتعبئة زيت الزيتون في علب بلاستيكية صغيرة تبيعها بشيكلين، بينما وزنها لا يتجاوز بضع غرامات، والأهم أن هذه العلب لا تحتوي على أية معلومات حول الزيت المعبأ بها سواء النوع أو تاريخ التعبئة أو الإنتاج وهو ما يخالف القانون.

مضاعفة الأرباح

وينص قانون حماية المستهلك رقم 21 لعام 2005 مادة 27 على أن كل من عرض أو باع سلعا تموينية فاسدة أو تالفة أو تلاعب بتاريخ صلاحيتها او احتفظ بالموازين او المكاييل غير معتمدة من الآلات غير الصحيحة المعدة لوزن السلع أو كيلها في الأماكن المحددة في "8" من هذا القانون يعاقب بالسجن لمدة لا تزيد عن عشر سنوات او بغرامة مالية لا تتجاوز عشرة الاف دينار او ما يعادلها بالعملة المتداولة قانونا أو بكلتا العقوبتين مع إتلاف البضاعة الفاسدة وضبط الموازين والمكاييل غير المعتمدة.

ويؤكد الخبير الاقتصادي نهاد نشوان أن كبار التجار يستغلون تجزئة السلعة لرفع الأسعار وزيادة أرباحهم، حيث تم اللجوء لهذه العملية من البيع خلال سنوات الحصار وفي ظاهر الأمر مراعاة الأوضاع الاقتصادية الصعبة بينما الحقيقة أن الهدف هو تحقيق المزيد من الربح.

خبراء: التجزئة استغلال للأوضاع الاقتصادية القاسية

وقال نشوان " معظم مستوردي السلع الاساسية في قطاع غزة باتوا يعتمدون سياسة تجزئة السلع مثل ( الزيوت، البذور، البهارات والقهوة) إلى كميات صغيرة بسعر شيكل واحد بحجة التخفيف عن كاهل المواطن لانخفاض القوة الشرائية، لكن الحقيقة انهم باتوا يحصدون أرباحا طائلة.

وطالب الجهات المختصة متمثلة في المجلس التشريعي وقف ما وصفه "الاستغفال والانتهاك المالي الصارخ بحق المواطنين وتطبيق أحكام المادة 27 من قانون 25 للعام 2005 لحماية المستهلك"، ومضى يقول: "من الجرم الاقتصادي أن يتم استيراد كيلو الزيت بمبلغ 15 شيكلا ويباع مجزأ للمواطن المقهور بقيمة 50 شيكلا".

ويعزو الخبير الاقتصادي أسامة نوفل عملية تجزئة السلع إلى ضعف القوة الشرائية وتردي الأوضاع الاقتصادية والتي جعلت المواطن عاجز عن شراء حتى أبسط السلع الأساسية رغم انخفاض سعرها حالياً.

واعتبر أن عملية التلاعب المستفيد الأكبر منها هو كبار التجار والمستوردين، فهم من يحققون الربح نتيجة تجزئة السلعة وبيعها بأسعار مضاعفة.

بلا رقابة

وتنص المادة الخامسة من قانون حماية المستهلك على أن كل من امتنع عن وضع قوائم أسعار السلع أو الخدمات في أماكن ظاهرة أو خالف التسعيرة المعلنة يعاقب بالسجن مدة لا تزيد عن ستة أشهر أو بغرامة لا تتجاوز خمسمائة دينار أردني أو ما يعادلها بالعملة المتداولة قانوناً أو بكلتا العقوبتين، إلى جانب ضرورة مراعاة عدد المنتجات أو مقدارها أو مقاسها أو كيلها أو وزنها أو طاقتها أو عيارها.

م. زياد أبو شقرة مدير دائرة حماية المستهلك في وزارة الاقتصاد أكد بدوره أن الوزارة لا تتدخل في عملية التجزئة التي انتشرت بشكل لافت في السوق المحلي خلال العام الماضي.

أصحاب محال: الإقبال عليها كبير والربح الكبير يصب في جيب التاجر

وقال "نحن كوزارة لا نتدخل في التسعيرة والسلع المنتشرة في السوق لأن نظام الاقتصاد الفلسطيني حر وانما نتدخل في حالات ضيقة إذا كان السعر مرتفع بشكل كبير".

وتابع " نراقب الاوزان وقد أجرينا دراسة العام الماضي على اوزان السلع المجزأة ووجدنا انه لا يوجد تلاعب إلا في سعر الفلفل الأسود والهيل حيث كان يتم بيع 5 غرامات بشيكل وفي هذه الحالة يصبح سعر الكيلو أكثر من 180 شيكلا الا انه جرى زيادة الكمية ووصلت الى 7 و9 جرامات".

وأوضح انه تم عقد عدة لقاءات مع كبار التجار وأصحاب المطاحن وأكدوا انهم لا يحققون أرباحا كبيرة خاصة في ظل التنافس الشديد، كما ان تكلفة التجزئة يتحملها التاجر وبالتالي فان الربح ينخفض، لافتاً إلى أن التجار يبيعون السلع المجزئة للموزعين وأصحاب البقالات بسعر قليل وهم من يقوم ببيعها بسعر شيكل.

ولفت أبو شقرة إلى أن ضعف القوة الشرائية أدى الى تراكم هذه السلع في البقالات، حيث لا يتم بيعها إلا بعد عدة شهور ما يعني أن أرباح كبار التجار فقط 5 شواكل في الكيلو الواحد بينما يحصل أصحاب المحال التجارية والبقالة على نصيب الأسد من الربح، وفق قوله.

واعتبر توجه التجار الكبير لتجزئة السلع مؤشرا حقيقيا على تدهور الاقتصاد المحلي وعدم قدرة المواطنين على شراء كميات كبيرة من السلع، مبيناً أن الربح مقسم على التاجر المورد والموزع وأصحاب البقالة، فهم شركاء في الأرباح.

وقال " اجبرنا التجار على الالتزام بالأوزان بأن تكون مناسبة للسعر وحالة التنافس الكبير الموجودة في السوق أدت لانخفاض كبير على الأسعار".

حديث أبو شقرة يتضارب مع رأي الشاب حامد الشندغلي صاحب محل بقالة في حي النصر بغزة الذي بين للرسالة، أن هامش الربح قليل جداً بالنسبة لأصحاب البقالات والمحال التجارية، وأن الربح الأكبر يذهب للتاجر المورد، وتابع أن الأسعار تتفاوت من شركة لأخرى لكن أصحاب الشركات الكبرى المشهورة في القطاع لا تترك لنا هامشا للربح، وإنما ما يتبقى لنا من الربح ضئيل جداً مستغلين بذلك الطلب على بضاعتهم من الناس".

ويقر الشندغلي أن حجم الاقبال على السلع المجزأة "كبير جداً"، معللاً ذلك بعجز المواطنين عن الشراء، ولجوء التجار على تجزئة معظم السلع، وتابع حديثه وهو يجلس في دكانه المتواضع وتحيط به "كراتين" البهارات والقهوة المجزأة": "الاقبال كبير جدا عليها خاصة القهوة والزيت والبهارات مثل الفلفل الأسود والسماق والهيل فالكرتونة الواحدة تباع خلال أسبوع تقريباً".

يقلب عبوة القهوة الصغيرة محاولاً التعرف على وزنها قائلاً: "كلها تباع بشيكل لكن كل شركة تضع وزنا مختلفا عن الأخرى"، مؤكداً أن زيت الزيتون يحظى بطلب كبير من المواطنين نتيجة ارتفاع سعره وعدم قدرتهم على شراء كميات كبيرة منه.

ما ذكره الشندغلي حول الاقبال على السلع المجزأة أكده صاحب المحل التجاري سائد سويركي الذي قال للرسالة "في الفترة الأخيرة تغيرت العادات الشرائية للناس وباتوا يقبلون على شراء الاكياس الصغيرة وهو أمر لم يكن مألوفا في فترات سابقة".

ويشير إلى ان حجم الاقبال على السلع المجزأة كبير جداً، متفقاً مع سابقه بالقول: "هامش الربح فيها قليل بسبب ارتفاع سعرها من التاجر الأصلي، لكني كصاحب محل لا يمكنني مقاطعتها لأنها مطلوبة".

وسط انشغاله ببيع الزبائن يحدثنا قائلاً "هناك فرق كبير بين سعر المجزأ والجملة لكن أنا كصاحب محل لا أملك أن أخفض السعر لأن المتحكم الحقيقي به هو التاجر، ومن المعروف أنه كلما قلت كمية السلعة وخضعت لعملية تجزئة يتم رفع سعرها".

ومن المؤكد ان عملية التجزئة تزيد من التكلفة على التاجر لكن من الضروري مراعاة الأسعار وتناسبها مع الاوزان إلى جانب ضرورة تحمل فئة التجار مسؤولياتهم الاجتماعية اتجاه القطاع الذي يعاني من أزمات اقتصادية كبيرة، فقد تراجع الناتج المحلي لغزة من 493 مليون دولار في الربع الأول 2017 قبل العقوبات التي فرضتها السلطة إلى 432 مليون دولار في الربع الثالث 2017 بمتوسط تراجع 12%، كما تراجع نصيب الفرد من الناتج المحلي من 257 دولار إلى 232 دولار خلال نفس الفترة، كما ان 56% من سكان القطاع باتوا يعانون من انعدام الامن الغذائي.

ورغم أن السوق الفلسطيني يعتمد على النظام الحر الذي يحد من تدخل الحكومة في حركة السوق إلا أن الوضع الاستثنائي الاقتصادي الذي يمر به أهالي القطاع ونسب الفقر والبطالة غير المسبوقة تفرض على الجهات الحكومية وتحديداً وزارة الاقتصاد التدخل ووضع حد لعملية التلاعب واجبار التجار على مراعاة الأوزان مع الأسعار التي تباع بها السلع المجزأة للتخفيف عن كاهل المواطن.

كما أن ترك الأمر لحالة التنافس في السوق لن ينصف المواطن المسحوق كون التجار في النهاية مهتمين بهامش ربح كبير وبالتالي لن يتجهوا إلى تخفيض كبير في الأرباح.

البث المباشر