قائمة الموقع

زوجات أسرى المؤبدات: إنا لنجدُ ريحَ أزواجنا

2018-03-08T10:05:10+02:00
منى السايح زوجة الأسير بسام السايح
الرسالة-ياسمين عنبر

قد تصحو اليوم زوجة أسير باكرًا إلى مقر الصليب الأحمر لتوقع على تصريح أمني لزيارة زوجها، وفي طريقها تخرج من حقيبتها لائحة مستلزمات للبيت، وتتذكر أن لديها موعدًا لدى المحامي للنظر في آخر مستجدات قضية زوجها، لتعود في المساء وتنهي يومها بحل مشاكل أبنائها التي لاقوها خلال يومهم، ولم تنتبه بعد أن النساء كن يحتفلن بيومهن العالمي!

كان غريبًا كما هو مخجل أيضًا أن نبدأ الحديث مع زوجة أسير محكوم بالمؤبدات مرات كثيرة، حاملين في أذهاننا فكرة أن شبابهن يستشهد على عتبات المؤبدات، فنفاجأ بحديثها الذي استهلته بسؤال استنكاري: "من قال إن شبابنا يستشهد!"، وأكملت بنبرة تحدٍ: "المؤبدات تزيدنا حبًا وتمسكًا بالحياة وتعطينا أملًا كما لم يعطنا إياه أي شيء آخر" فتدرك وقتها أن الاصطفاء لم يكن للشهداء والأسرى فقط، بل لزوجاتهن أيضًا!

فسرحانك في حديث زوجة أسير محكوم بمؤبدات لدقائق قليلة وانسجامك مع حديثها الإيماني يجعل إمكانية وصفك لمعنى المؤبد صعباً للغاية، كما أن حديثك مع طفل صغير قرب درج بيته حول مفهوم المؤبد أيضاً مميت، فقد زرعت فيه أجمل النساء _أمه_، أن المؤبد يعني حتى يحل رمضان القادم ويغير ما في هذه الأمة، لقد عد الطفل على أصابعه، وقال: "ماما بتحكي ضايل بس شهرين لطلعة بابا بس حكتلي ما بشبهو شهورنا اللي عالأرض".

في الثامن من آذار كان حديث "الرسالة" مع نساء كان بمقدورهن أن ينسحبن من حياة أزواجهن بأقل الخسائر، كان بإمكانهن الانفصال بمجرد سماعهن كلمة "محكوم بالمؤبد مدى الحياة مرات عديدة" في أروقة المحاكم الإسرائيلية، لكنهن يعلمن أن الحياة لن تكون وردية إلا بالانتصار على الاحتلال، وأن اللذة لن تكون إلا بالنصر بعد مشقة!

المرأة الحديدية "منى السايح" كانت واحدة من النساء اللاتي تحدثت معهن "الرسالة" بمناسبة يومهن العالمي، وهي زوجة الأسير بسام السايح الذي يعد أخطر حالة مرضية في سجون الاحتلال.

فلم يكن السجن والغياب هي من تقاسيه منى فقط، بل مرض زوجها وقلقها عليه يزرع خوفًا داخل نفسها، عدا عن كونها تعيش وحيدة بمدينة نابلس في ظل غياب أهلها خارج الوطن.

والفلسطينية كما تحكي "السايح" هي الصامدة القوية والشامخة كشموخ الجبال، رغم الألم والقهر والتعذيب والتنكيل والبطش التي واجهته ولا تزال تواجهه من المحتل البغيض.

ورغم كل ما تعانيه "السايح" وزوجها وما تزال، إلا البسمة لم تغادر محياها، تقول: "حين أزور بسام تكون الزيارة عبارة عن تجديد عهد بالتفاؤل والأمل والصبر لأننا على يقين أنه سيخرج من سجنه وسيحطم القيود وسينزع الأغلال رغم أنوف القاهرين".

وحتمًا سيكون الحديث عن عذابات السجن والسجان مختلفًا، حين تتحدث مع أحد أهالي الأسرى ويكون هو أيضًا قد تجرع من كأس الظلم الإسرائيلي في الزنازين.

فالسايح وهي أسيرة محررة تعلم تفاصيل القهر جميعها التي يتعرض لها زوجها ما يجعل الأمر أصعب على نفسها، تدرك أن ما تعرضت له من معاناة وقسوة لا ينتظر يوم المرأة ليمجد صمودها ويعزز دورها، "فكل يوم هو يومي" تقول.

فقد بدأت معاناتها بغيابها عن زوجها عندما اعتقلت، وقضت سبعة شهور في الأسر، ثم اعتقال زوجها خلال حضوره إحدى محاكماتها قبل دخوله لقاعة محكمة "سالم" العسكرية، تحكي السايح: "اعتقاله كان أصعب بكثير على نفسي من اعتقالي".

حيث يعاني من سرطان الدم والعظم، وقصور حاد في عضلة القلب، والتهاب رئوي مزمن، وهشاشة عظام لدرجة كبيرة، فقد كان همها بعد خروجها من السجن أن تطالب بعلاجه.

ورغم كل الأمل الذي يسكن قلب "السايح" وزوجها الذي ينعتونه بـ"الأسير المقاوم المبتسم" إلا أن ذلك لا ينفي حجم المعاناة لكليهما، منذ ليلة الاعتقال مرورًا بتعذيبها في أقبية التحقيق والزنازين، وصولًا إلى الثلاث دقائق التي سمح لها بعد سنوات أن ترى زوجها دون زجاج وفواصل لالتقاط صورة.

فبكل عنجهية فوجئت "السايح" وزوجها بالجنود فوق رؤوسهم بعد كسرهم لباب المنزل، ومصادرة أجهزتهم الإلكترونية واعتقالها بعد أن عاثوا فسادًا في البيت، تستكمل حديثها: "في أقبية التحقيق تم تفتيشي تفتيشًا عاريًا، وهددوني بإيذاء زوجي المريض بالسرطان، وتشويه سمعتي، عدا عن توجيه الشتائم والمسبات البذيئة".

وتسترسل: " الزنازين في الجلمة كانت عبارة عن قبور ضيقة لا يدخلها الهواء ورائحتها متعفنة ومليئة بالرطوبة وواجهاتها سوداء وخشنة ولا تصلح للاحتجاز الآدمي، إضافة إلى وجود فرشات قذرة".

وما زاد من معاناتها وقتها كما تقول عدة مشاكل صحية وأمراض مزمنة تلازمها، كالقولون التقرحي، والجيوب، والتهابات المفاصل، وتمزق الأربطة.

تروي لـ"الرسالة" عن أكثر المواقف المؤلمة التي واجهتها في سنوات أسرها وأسر زوجها، قائلة: "في أحد الزيارات المعدودة تفاجأت أن المرض اشتد عليه كثيرًا وبلغ درجة كبيرة حتى فقد صوته، وأنه يمسك ورقة وقلم ليكتب لي ما يريد".

فكانت قسوة الاحتلال تتمثل في منعها من الدخول إليه من خلف الزجاج، لتُصدم أنها ستتواصل معه بالإشارة أو ترد عليه بورقة وقلم كما يفعل.

ورغم كل ما عانته "السايح" وانتقال المعاناة إلى زوجها المحكوم بمؤبدين و30 عامًا، إلا أنه خلال زيارتها له في الأسر لم يكن شيء حاضرًا كالابتسامات ورفع المعنويات كما لو أنه محكوم بشهور قليلة.

تختم السايح حديثها عن الصورة التذكارية التي التقطت لها في زيارتها الأخيرة والتي تعدها وسيلة لرفع معنوياتها، مدركة أن أحكام الاحتلال واهية لا دخل لها بالسنوات التي ستعيشها بغياب زوجها فهما متعلقان بالفرج ويخططان له كل يوم كما لو أنه غدًا، "والله إني لأجد أن الفرج بات أقرب إليّ كأنه على مسافة صفر مني".

دلال الزبن نموذج آخر للمرأة الفلسطينية التي قاست في ظل غياب زوجها، فهي زوجة الأسير عمار الزبن الذي تركها وحيدة في مشوار الحياة وهي لم تتجاوز ربيعها التاسع عشر بعد!

بشائر النصر كان عمرها عامين يوم أن اعتقل والدها لتعيش مع والدتها قسوة الحرمان، فلم تنس الزبن يوم أن عادت من روضتها تبكي لأن كل البنات جئن يومها يمسكن بأيدي أبيهن إلا هي وأختها !

فنفس اليد التي كانت وحدها في أول يوم بالروضة، ستسلم إلى عريسها دون يد أبيها الذي يسندها أيضًا، فبعد شهرين ستزف إلى عريسها الذي طلب يدها من أبيها الأسير عبر الهاتف!

أما ابنتها الثانية فعمرها بعمر الوجع، حيث كانت جنينًا في أحشائها حين حكم على أبيها بالحكم المؤبد 2 مرة، والتي لم تتمكن من رؤيته إلا حين بلغت 11 عامًا، فقالت له "عمو" بدلًا من "بابا"، ليصحبها هذا القهر لما تذكرت كيف أن دموعه همعت كالمطر!

"الزبن" التي أصبحت أيقونة لأهم نماذج النضال الفلسطيني، لا سيما في صفوف الحركة الأسيرة، كانت أول من طرحت على زوجها الأسير فكرة الإنجاب عن طريق النطف المهربة، محاربة بذلك كل الصعوبات وحدها، ويزداد إصرارها كلما زارت مسامعها عبارة القاضي حين حكم زوجها بالمؤبدات الكثيرة: "عمرك ما راح تحضن ولد زي ما بتتمنى".

فحين رأت أن عداد العمر يمشي مسرعًا، ارتأت أن تجاهد هي أيضًا كما زوجها، فأنجبت مهند وهو أول سفير للحرية وتبعه بعد سنوات صلاح الدين، لتفتح طريق المقاومة والأمل أمام زوجات الأسرى لينتصرن على الاحتلال.

ففي يومها العالمي تقول "الزبن": "بعد عشرين عامًا من أسر زوجي والمعاناة التي لاقيتها إلا أني أعيش على الأمل أن اللقاء أقرب إلي من رموش عيني".

فالمرأة الفلسطينية في نظر "الزبن" ليست المرأة بمفهومها الضيق، فهي الحُـرة أم الأحرار والثوار وهي صانعة الرجال وأم الأبطال وأختهم وشريكتهم في النضال والمقاومة كما أنها بنت فلسطين التي تذود بكل ما تملك.

حيث تعددت طرق دفاع المرأة الفلسطينية عن وطنها وحريتها، فواحدة تقدم روحها رخيصة لأجل بلدها، وأخرى تدفع بأبنائها إلى ميدان المواجهة، وثالثة تستقبل خبر استشهاد ابنها بدموع الفرح والزغاريد، عدا عن اللاتي يوجهن مواهبهن في الرسم أو الكتابة لتصميم الشعارات والأناشيد والعبارات الحماسية التي ترفع من معنويات شباب فلسطين لتقويهم وتشد من عزائمهم لكي يتمكنوا مواجهة العدو الإسرائيلي.

لم تكن "السايح" و"الزبن" إلا صور تضحية وصمود من نماذج لا تعد، فالمرأة الفلسطينية وعلى مر الزمان قارعت العدو الصهيوني بكل بسالة، فهي أم الأسير والشهيد والجريح وزوجته وابنته وأخته، بل هي المجاهدة والشهيدة والأسيرة والجريحة.

وهي أيضًا من كتب عنها أحدهم في محاولة لإنصافها: "تراب الوطن الذي يعفر وجهك كسحب تعانق وجه القمر أجمل وأنبل من كل المساحيق .. جلبابك المثقوب لا أدري من ثقبه، هل رصاصات العدو على ظهرك أم نظرات الحسد على طهرك؟ أنت السيدة بين السيدات، فوق السطوح تراقبين وطنك، أو تحت الأنقاض تحضنين طفلك، طريق الجنة تحت قدميك، ومفتاح القدس بين يديك".

اخبار ذات صلة