قصة : حميد بن خيبش
لا تكترث لزيادة تاء غير مألوفة ..
ودعك مما يثيره الاسم من حنين إلى الشدو المنساب عبر الأثير العربي، متوسلا طير الوروار أو مناجيا زهرة المدائن. فيروزة هنا عنوان الشقاء في بلدتي، حيث كل شيء يباع ويشترى حتى الضمائر !
قد تجد فيروزة في كل بيت. أما أو أختا أو جدة ملقاة في أي ركن كالدمية البالية. لذا لن أحكي شيئا مما تعرفه، أو تعودت طبلة أذنك على اهتزازاته كل صباح في مقهى الناصية.
لك وعد مني، أنا الراصد لبعض ألوان الشقاء، أن تكمل القصة وتنصرف. لأنك دُست مثلي على صور الحرمان دون اكتراث. ما العيب في ذلك إن كان العالم خطة فاشلة لاقتناص السعادة؟
هرولت العاملات إلى حيث سقطت فيروزة مضرجة بدمها القاني. شمس الظهيرة تلفح الوجوه بسياطها اللاذعة لتزيد المشهد تذمرا وسخطا، بينما صوت مالك الضيعة يقرع الآذان بشتائمه الغليظة متوعدا فيروزة بالمزيد .ولد الخيرية، صاحت إحداهن، لو كنت ابن أصل لما رفعت عصاك على ولية. تفو يلعن أب.." ركلت الأخرى علب الكرتون المرصوصة غيظا فتناثرت حبات الخوخ يمنة ويسرة على العشب المبلل .
فيروزة ممددة جنب الطريق ترسل أناتها الموجعة، بينما العاملات يتوسلن العربات المارة لنقلها إلى المركز الصحي. يقف أحدهم لالتقاط صورة، و يلوح آخرون معتذرين عن التصرف بإنسانية في بلد قوانينه لا ترحم !
لم يكن مالك الضيعة غير مُهرب سابق، أفلت من حملة التطهير التي شنتها الداخلية على رؤوس أينعت في الشمال وحان قطافها. حسابه البنكي لم يعد في مأمن من المساءلة أو المصادرة، فحمل مدخراته إلى سفوح الأطلس. يكفي شراء ضيعة بائسة، وحفر بئر تعيد لشجيرات الخوخ نضارتها حتى يسلم المرء من ملاحقة المخبرين. هنا كل شيء هادئ تقريبا. عوَز يضطر القرويين أن ينادوك :سيدي، ويتحينوا غفلة من الحارس لتأخذ علب الخوخ وجهة أخرى. ليسوا لصوصا لكنهم يمتحنون عدالة السماء. إن أمطرت ففي صدر الرب متسع لزلاتهم، أما حين تنضب الآبار الصغيرة، ويضطر أحدهم إلى بيع دجاجاته بثمن بخس فإن غريزة السلب تنبعث من رمادها كعنقاء مجنونة !
يبدأ يوم فيروزة قبيل الفجر بدقائق تكفي لحزم صرتها، وارتداء معطف زوجها الراحل. بين الدعابة والمرح على ظهر الشاحنة المتجهة صوب الضيعات الجنوبية، انكشفت لفيروزة هموم متلاحقة. ما الذي أصابكن يا حفيدات الوجع اليومي و التيه في دروب الأحلام الوعرة ؟ نثرت كل بلهاء منهن ما لملمته طوال شهور بين يدي مالك الضيعة، لقاء ماذا ؟
عقد للعمل بدولة خليجية..
أو زواج متعة برب مزرعة مجاورة، ينتهي غالبا بكسر مضاعف في لوح الكتف ..
لكن ما هز الفؤاد حقا تأكيدهن بأن المرء لا يحتاج سوى كلية واحدة، أما الأخرى فكنز علي بابا الذي يطوي أيام العوز المريرة !
استأذنت بالدخول ثم شرعت تحكي سيرة زواجها المُرة:
- زوجي كان من أعيان البلدة. غرته أيام الباكور السبعة فتاجر في كل شيء. المال و الشرف و السياسة. قبح الله الزلط الذي يجعل ابن الحرام قاضيا للحوائج .الله يهديك يا وليدي سـ...
ترنحت فيروزة قبل أن تهوي. صدى الكلمات يخفت شيئا فشيئا بينما ينساب خيط دم دافئ على السجاد. شيء ما يمرق إلى عظامها كوخز الإبر، ثم رائحة عشب مبلل تنفذ إلى الخياشيم.
قد تجد فيروزة في كل بيت، لذا لن أرش ملحا على جرحك المخبوء في فنجان قهوة. فأنت مثلي.. راصد لألوان الشقاء دون اكتراث !