يبدو مرة اخرى اننا في بداية فترة من الاحداث الامنية، سواء في الضفة أم في غزة. صحيح أن هناك صلة بين المنطقتين، اساسها هي حماس، ولكن من ناحية استراتيجية يدور الحديث عن قصتين مختلفتين تستوجبان موقفا مختلفا. فالوضع في الضفة ثابت ومستقر، ولأنه لا يبدو احتمال لاختراق سياسي - الا اذا نجح ترامب في المفاجأة - فان كل ما هو مطلوب هو مواصلة السياسة القائمة التي في اساسها التعاون الاقتصادي والامني. وإذا كانت هناك دروس من الاحداث الاخيرة، فإنها تكتيكية في طبيعتها.
اما في غزة فالوضع مختلف حيث توجد بالفعل حاجة الى مبادرة اسرائيلية، إذ ان الوضع ليس مستقرا ومن شأنه أن يتفجر في أقرب وقت ممكن، سواء من خلال الانفجار العسكري على نمط الجرف الصامد أو في سيناريو أكثر تعقيدا في مركزه مظاهرات للجماهير واقتحام الجدار نحو (إسرائيل).
والاختلاف بين الشكل الذي اعتدنا على التعاطي به مع غزة وبين الطريق الصحيح يقوم على أساس ثلاثة عوامل. الاول، غزة هي بحكم الامر الواقع دولة مستقلة منذ 11 سنة. فللدولة توجد أربع خصائص: أرض محددة، حكم مركزي ناجع؛ سياسة خارجية مستقلة؛ وجيش خاص بها. وغزة تستجيب لكل هذه الشروط الاربعة.
اما الثاني فيتعلق بالمصالح. ليس لـ(إسرائيل) بالنسبة لغزة مصالح سياسية، اقتصادية أو اقليمية -فقط مصلحة امنية في الحفاظ على الهدوء. ومع ان لحماس رؤيا لتصفية (إسرائيل)، ولكن في كل ما يتعلق بالمصالح قصيرة المدى، فإنها تكتفي بمواصلة السيطرة في غزة. لهذا الغرض فإنها بحاجة الى شرعية دولية والى مساعدة اقتصادية عاجلة -وعليه فلا يوجد تضارب حقيقي بين المصالح الاسرائيلية والمصالح الفورية لحماس.
اما الثالث، فهو انه لا يمكن اعادة اعمار غزة طالما كان الاصرار على أن تصل اموال الاعمار الى السلطة الفلسطينية. فأبو مازن غير معني بإعمار القطاع -هو معني بإسقاط حكم حماس، ولا مشكلة لديه في أن يحصل الامر على ظهر مليوني مسكين يسكنون هناك. كما لا يزعجه ايضا صدام عسكري آخر بين (إسرائيل) وحماس، إذ في نظره هذا صدام بين عدوين.
الاستنتاج مما سبق واضح: على (إسرائيل) أن تغير السياسة، ان تعترف بانها تحاذي دولة مستقلة تسمى غزة الحكم فيها انتخب بشكل ديمقراطي نسبيا. اضافة الى ذلك، على (إسرائيل) ان تشجع دول الغرب والدول العربية على الاستثمار في اعمار غزة، باشراك حكومة حماس وليس من خلف ظهرها. وبقدر ما يتم هذا، وكلما بنيت في غزة المزيد من محطات توليد الطاقة، منشآت التحلية او مشاريع لإنقاذ المجاري -هكذا تكون حكومة حماس ملجومة أكثر.
أنا أعرف الحجة التي تقول ان حماس ستستغل المساعدة فقط كي تبني المزيد من الانفاق، ولكن حجتي المضادة: هذا ما يحصل عمليا في السنوات الاخيرة لأننا لا نتفاوض مع حماس ولا نعطيها المال او الوسائل مباشرة. حماس ستستثمر أكثر في البنى التحتية المدنية إذا ما اعترف بها كدولة بحكم الامر الواقع، واذا ما اجريت معها الاتفاقات التي تتطلب رقابة متشددة على الاسمنت وعلى باقي الوسائل التي تدخل الى القطاع.
ان الانقسام السياسي بين شطري السلطة الفلسطينية، ذاك الذي في الضفة وذاك الذي في غزة، احدثه الفلسطينيون وليس (إسرائيل). ولهذا السبب، ليس لـ(إسرائيل) أي مصلحة في تحويل هاتين المنطقتين الى نوع من الدولة الواحدة. من الافضل لنا أن ندير سياسة صحيحة تتمثل بالعصا والجزرة تجاه الكيان السياسي المستقل في غزة، من أن نهدد فقط بالعصا والامل في أن تحرص مصر او ابو مازن على اعمار القطاع.