بدأ النهار خفيفاً، أو ثقيلاً، وبدأنا بأحلامنا، أو حتى بدونها، لا فرق، لم يعد يعنينا كثيراً، إلا غزة، صورة وضعت داخل برواز يتناسب مع المساحة الضيقة، والصدر الواسع، برواز من حديد صدئ يتمدد صدؤه إلى داخل الصورة، وفي كل مرة قبل أن تصل رائحته النتنة إلى القلوب الغزية، تنفجر غزة في وجه الجميع، وتقول للعالم، هنا نحن، هنا باقون، كشجر اللوز والصنوبر والزيتون.
في يوم الجمعة، الثلاثون من مارس، في الذكرى الثانية والأربعين ليوم الأرض وبعد تحضيرات لأشهر، وحشد الآلاف، يخرج أهالي غزة، باسم الوطن المسلوب، وباسم الحصار الجائر، وباسم الصبر الطويل الذي صبروه، وباسم القمع والحروب الثلاثة، وباسم القدس عاصمة فلسطين المغتصبة، وباسم الرافضين لصفقة ترامب، باسم كل الصامتين حتى اللحظة، والمنتظرين لمعجزة من السماء.
خرج هذا العدد المهول عبر الحدود رافعين علم فلسطين الذي لم يرفع وحيدا منذ سنوات، عشرات، مئات وألوف، أمهات وأبناء، يلفون حول رقابهم الكوفية، يحملون في الصدر قلبا أتعبه حصار ثلاثة عشر عاما من الهوان، وكأن غزة كتب عليها دون كل الباقين أن تثور في وجه كل شيء، اللسان الأكثر جرأة على الرفض، واليد الأكثر قدرة على البطش، وفي كل نبض للحرية تجدها تسقي الأرض بدماء أبنائها.
هذه الصورة التي بدأت مع ساعات الصباح الأولى، لم تتطلب وقتا طويلا ليكتمل المشهد، فما هي إلا ساعات وبدأت أصداء الخوف تتردد في الوسط الإسرائيلي، وبدأ بإخلاء مستوطنات غلاف غزة، هروب جماعي لقطعان يعرفون أن المكان ليس لهم، والأرض لأهلها مهما طال الزمن، خوف ثم رعب، ثم هروب، حتى امتد بهم الرعب لأن ينشروا عبر صحفهم اليومية الصادرة في يوم الجمعة نداءات استغاثة واستجداء باللغة العربية إلى جانب العبرية، يوجهون فيها رسائل إلى أهل غزة، دون غيرهم يطلبون منهم التروي، ويصفونهم بجيرانهم الأعزاء، وتصر (إسرائيل) على تصدير وحشيتها وتحميلها لحركة حماس، وتطالب بكل صفاقة ووقاحة أهالي غزة بالتروي!!
التروي، من أجل ماذا؟ من أجل سلب المزيد من الحقوق؟؟ وفرض المزيد من المعادلات الكاذبة، والانجرار حول المفاوضات الخداعة لسرقة الأرض.
والمشهد هناك على دوار ملكة في آخر حي الشجاعية شرق غزة يصور العزة بكل معانيها، مئات الآلاف في مقر انطلاق مسيرة العودة، يفترشون الأرض، أو يقفون، أو يسيرون معا في جماعات، يرقصون الدبكة، ويخبز النساء خبز الطابون، ويتناولون فطورهم وغداءهم سويا، يسيرون نحو العودة، عشرات الآلاف نحو هدف واحد، وتحت راية واحدة لا يلوون على شيء، في ذهنهم حلم العودة يبدو ممتدا عبر الأفق.
وعلى الجانب الآخر في رفح وخان يونس والشمال نقاط للعودة مشابهة، وفي كل منهم جيش يجر أقدامه نحو العودة، قبل أن تزداد مخاوف الجيش الإسرائيلي الجبان، والذي لم يتوقع الصورة التي كانت عليها العزيمة في قلوب الغزيين فأوكل رئيس أركان الجيش الإسرائيلي غادي أيزنكوت بنفسه للإشراف على قمع المتظاهرين على الحدود.
ثم ما قبل صلاة الجمعة ومع ازدياد التقدم ازداد خوف الاحتلال من تلك الأقدام المصرة على الوصول فبدأ برش غازاته السامة من الطائرات المنتشرة في السماء، بينما توزع ألف قناص إسرائيلي على الحدود يقتنصون الشهيد تلو الآخر، بمزاجية مطلقة، فارتقى القائد والطفل والفنان والابن والأب والزوج، ومع كل شهيد سقط حلم من أحلام غزة فداء لحلم العودة.
ورغم ذلك أكملت المسيرة تدفقها نحو الوطن، نحو الجورة، والمسمية، والقدس، نحو يافا وحيفا واللد، نحو المجدل، ودير ياسين، بدون وجل أو خوف، أجل، وطائرات الاستطلاع تحلق، وتقذف غازاتها المسيلة للدموع، والرصاص يخترق الأسماع والعقول، والخيام منتصبة على طول الخط في دوار من شمال غزة حتى جنوبها، وكل خيمة تحمل اسم مدينة أو قرية، يتلهف أصحابها لنصبها على أرض البلاد بعد العودة.
سترى في داخل المشهد كهلا يتوكأ على عصاه، في مشهد عاشه قبل سبعين سنة، يقف إلى جانب خيمته ويشير إلى اسم قريته، وتجد عجوزاً من بئر السبع تحمل فوق رأسها صرة ملابسها القديمة، وتعلق مفتاح بيتها وتلف وجهها ببرقع ورثته عن أمها بعد أن قطعت على نفسها وعداً بأن تعود إلى بئر السبع.
وهناك أيضا بين الخيام، أطفال كثر، جاءوا مع أمهاتهم، يلفون حول أكتافهم أعلاماً أطول من أجسادهم الصغيرة، ويسيرون مع المسير.
ثم بدأ الاحتلال يزيد من استنفاراته، فسقط الشهيد تلو الشهيد، حتى وصلوا لسبعة عشر شهيدا تلقفتهم ثلاجة الموتى في مستشفيات غزة.
سبعة عشر نجما أضاءوا طريق العودة، أحلامهم كانت تسبقهم، فمحمد أبو عمر نحات غزي، نحت بالرمال حلم العودة قبل أن يرحل، والشهيد زهير أبو جاموس ترك وراءه عائلة كلها من المكفوفين وكان هو فقط عينهم المبصرة.
سبعة عشر شهيدا بكتهم أمهاتهم في ثلاجة الموتى، ورثيناهم كما ينبغي أن يكون الرثاء، سبعة عشر شهيدا ليسوا أرقاما، وإنما نجوما ستضيئ لنا الطريق، وسنكمل نحن المسير، فسبعة عشر شهيدا ليسوا سببا لسقوط شعب بأكمله، وليسوا سببا مقنعا لأن نتوقف.