الشهيد البطران يلتقي عائلته في العالم الآخر

يوسف البطران : عمي هو كل عائلتي وربانا على الشجاعة

بحر : ودعنا أسطورة في المقاومة والشعب لن يترك سلاحه

قائد قسامي : رأى زوجته في الجنة وأخبرته بقرب اللقاء

الوسطى - محمد بلّور – الرسالة نت

ربّت براحته على شاهد القبر ثم مرّ بعينيه على ستة قبور متلاصقة قائلا:"ها قد رقدت بجوارهم أخيرا يا أبا بلال فهذه ليلة حلوة لكم جميعا" .

كرر موسى البطران شقيق الشهيد عيسى تلك العبارة والناس قد انفضوا من المقبرة سوى القليل منهم , كان خطاب الوداع بالنسبة له لمن ووري التراب منذ لحظات .

هزّ رأسه وأضاف:" أستودعك الله لقد نلت يا أخي بعد ما قدمت الكثير-صوته يختنق- الله الدين والوطن هذا ما علمنا إياه والدنا , رحمك الله يا أبا بلال رحمك الله يا توأم الروح رحمك الله يا حبيب الجميع" .

شدّ بعض الواقفين موسى من جلسته وأخبروه أن الناس ينتظرون لتعزيته فقام وجراحه ساخنة أكثر من شمس الظهيرة التي حميت فوق رؤوس المشيعين .

مشهد حقيقي من مشاهد الألم على الفراق مرّ بكامل واقعيتها على موسى الذي هتف بالحضور معددا أسماء أبناء عيسى الشهداء مطالبا بالانتقام له.

وكان آلاف المواطنين شيعوا بعد صلاة الظهر السبت الماضي جثمان الشهيد القائد عيسى البطران أحد أبرز قادة القسام في مجال التصنيع العسكري .

واستشهد البطران في غارة نفذتها طائرة إف 16 على منزله قرب شاع صلاح الدين بمخيم النصيرات حيث كشف عن استشهاده بعد ساعتين من القصف .

وشارك في موكب التشييع العشرات من نواب المجلس التشريعي ووزراء الحكومة وقيادات حركة حماس وكتائب القسام .

تحت التراب

عندما تلمّست وجهه وأنا أودعه علمت أنها المصافحة الأخيرة فقد صمتت جوارحه وكشف عن ابتسامة من عالم آخر .

رقد في حجرة المسجد الكبير بمخيم البريج وتوافد المئات لإلقاء نظرتهم الأخيرة عليه أقاربه ذرفوا الدموع وأصدقاؤه ألقمتهم الصدمة حجرا فصمتوا عن الكلام .

مضى موكب التشييع في يوم فريد على البريج , رأيت في عيون قادة القسام تلك النظرات التي رأيتها عند تشييع الشهيد محمود مطلق عيسى وعبد الناصر أبو شوقة فقد كان رحيل أبي بلال شاقا عليهم .

الآلاف ساروا بصمت نحو المقبرة حتى وصلوا وانهمكوا في إجراءات الدفن , هربا من شمس الظهيرة الحارقة تجمعت بعض الشخصيات لإقامة مهرجان خطابي بدأه النائب الأول للمجلس التشريعي د. أحمد بحر بكلمة هادرة .

وانتقد بحر عدوان الاحتلال الذي جاء بعد إعلان وزراء الخارجية العرب القبول بالمفاوضات معه.

وقال :  الشعب سيستمر في المقاومة ومن حقه المدافعة عن قضيته بكفالة كافة الشرائع السماوية والقوانين الدولية، مضيفا: من حقنا مقاتلة من يهود القدس ويهجر أهلها ويقتل كل يوم أبناء الفلسطينيين.

واعتبر غارات الاحتلال عل غزة واغتيال البطران ردا على قرار وزراء الخارجية العرب قبول بدء المفاوضات العبثية، قائلاً: قرار قبول المفاوضات الآن يعتبر ضوء اخضر لبدء عدوان جديد وسط تصريح نتنياهو أن الاستيطان لن يقف وأن القدس خارج جدول أعمال المفاوضات .

وتساءل لماذا تستعد سلطة رام الله للمفاوضات متسائلا على أي شيء ستفاوض رام الله وعلى أي طاولة ستجلس ! .

وأضاف: لا يمكن أن نتنازل عن ثوابتنا ولن نقبل بشروط الرباعية ولكن المؤسف هو قرار لجنة المتابعة العربية التي منحت الاحتلال لكنا لن نتراجع عن ثوابتنا" .

وتابع:"نودع مجاهدا من مجاهدينا وأسطورة اسمها عيسى البطران بعد أن حاولوا اغتياله عدة مرات ومن قبل اغتالوا زوجته وخمسة من أطفاله" .

فوق التراب

عاش عيسى البطران 40 سنة قدم فيها الكثير , عرف بالبساطة ودماثة الخلق فنسج علاقة مع كل من أحب .

في خيمة العزاء أطرق يوسف البطران برأسه دقيقة قبل أن يجيب عن سؤال "الرسالة" حول علاقته بعمه فقال: أبو بلال هو كل عائلتي –يتنهد- أنا أقرب الناس إليه ومعظم وقتي معه" .

وسمع يوسف صوت قصف عنيف ليلة استشهاد عمه قبل أن يتصل به أحد أصدقاؤه ويخبره أن القصف استهدف أبو بلال .

وأكد يوسف أن عمه تعرض لأكثر من أربع محاولات اغتيال خرج عقب كل واحدة منها أكثر عزيمة وأشد إصرارا ، مضيفا:بعد كل محاولة اغتيال أو إصابة كان يردد نحن على الدرب لن نكل ولن نمل ولم أشعر أنه خاف يوما من شيء" .

أوصى أبو بلال يوسف قبل استشهاده بكثير من أموره الخاصة وقد بدا مودعا منذ استشهاد زوجته وأطفاله في الحرب .

وأصيب أبو بلال خلال عمله قبل شهور وفقد راحة يده اليسرى فقال يومها : قدّر الله وما شاء فعل كنت أتمنى لو استشهدت ولكن نحن على الدرب لن نكل ولن نمل" .

تعرّض لأكثر من أربع محاولات اغتيال منها كان قصف سيارته بطائرة استطلاع على مدخل مخيم النصيرات فنجا منها بأعجوبة وثانية مثلها وثالثة قصفوا منزله المستأجر بطائرة إف 16 وكان يومها المنزل الوحيد في الوسطى الذي تلقى اتصالا وتهديدا بالقصف في حملة انطلقت قبل أربع سنين .

وفي العدوان على غزة لم يلبث أن يدخل منزله حتى قصفته طائرات الاحتلال  فاستشهدت زوجته وأبناؤه الخمسة وأصيب هو بجراح.

كما أصيب أبو بلال عدة مرات خلال عمله في التصنيع العسكري كانت آخرها قبل شهور حين فقد راحة يده اليسرى .

القسام يودعه

هكذا هم العظماء يرحلون مبكرا لكنهم يتركون وسما وبصمة من عظيم عطائهم وجزيل أعمالهم بيننا .

أصدقاء عيسى وأقاربه تحلوا بصمت قسري وهم يعيشون لحظة الوداع مع من تحرك بينهم وعمل معهم لسنوات .

وأفاد أحد قادة القسام "للرسالة" أن الشهيد البطران ترك بصمات مهمة في الكتائب عبر تطوير كثير من التجهيزات العسكرية، قائلاً: رغم عمله كمعلم في وكالة الغوث إلا أنه واصل الليل بالنهار في المقاومة وقدم من ماله الخاص الكثير للمقاومة وفتح بيته للعمل الجهادي" .

وأضاف :  البطران أراد اللحاق بأسرته في كل لحظة ، فقد حدثنا مؤخرا أنه رأى زوجته وأطفاله في الجنة وكانت زوجته دائما تواسيه وتقول له إن اللقاء قد اقترب وهو اليوم قد زف لهم في الجنة" .

وترك البطران خلفه طفلين، الأول من زوجته الأولى ويدعى عبد الهادي وعمره قرابة 3 سنوات والثاني اسماه محمد من زوجته الثانية وعمره عدة شهور .

وأشار أن الشهيد في آخر أيام حياته لم كان يتحرك دون الالتزام بالمحاذير الأمنية وكأنه يقول للعدو ها أنا ذا انتظر الشهادة ! .

وأضاف:"آخر أيامه طلب منه زملائه في التصنيع العسكري القيام برحلة ترفيهية على البحر فرض وقال لهم لا وقت لدي ومشروعي أكبر من الترفيه والرحلات ولا بد أن أنجز الكثير" .

وأكد قائد قسامي آخر "للرسالة" أن الشهيد البطران صاحب سجل طويل من العمل المقاوم ومواقف خاصة في التدريبات العسكرية قائلاً: أذكر دوره في المناورات العسكرية التي كان يعد فيها التجهيزات الهندسية والمتفجرات فكنا نفخر بإنجازه الرائع " .

وأعلن القائد القسامي أن الشهيد البطران كان مسئول ملف التصنيع العسكري وأنه تعرض لابتلاءات وأنه تمنى أن يلقى الله مضيفا:"استشهاده خسارة كبيرة للعمل القسامي في القطاع  عموماً والبريج خصوصا، فقد استشهد بعد أربع محاولات اغتيال كما تلقى كثير من الاتصالات التي هدده فيها ضباط المخابرات بالقتل" .

دائما يتغيّر

وتابع : كنت كلما رأيت عيسى البطران رأيت فيه شيئا قد تغير , فأحزانه دائما في ازدياد وإصاباته دائما تختطف شيئا من دمه وأطرافه .

وعلمت "الرسالة" أن الشهيد كان يجلس مساء السبت برفقة زوجته وولديه في ذات المكان الذي قصف وأنه قبل القصف بنصف ساعة دعا زوجته وولديه للمغادرة على أن يلحق بهما بعد قليل.

جلس عيسى على العشب الأخضر وفجأة سقط صاروخ ثقيل أصاب المكان بأضرار وجسده بشظايا قبل أن يغطي التراب جسده ويستشهد على الفور .

وكصحفي لم أعرف في عيسى البطران إلا نموذجا للإنسان الحر صاحب الخلق والمقاومة العنيدة التي أخفتها ابتسامة لا تفارق ثغره .

تحلّى عيسى بخلق كبيرة وأذكر حين أعطيته بطاقة الدعوة لزواجي اختطف مني بقية البطاقات ليوصلها هو بطريقته لبقية المدعوين في البريج فجمدت يومها عن الكلام وأنا أعرف تماما مع من أتحدث .

عندما رزق بابنه عز الدين قال لي مازحا أسميته عز الدين البطران ليكون اسمه كمن يقول عز الدين القسام ! .

ولم ينس عيسى رغم مشاغله كل من عرف فتواصل معهم بقدر الإمكان رغم ظروفه الأمنية الصعبة وكنت قد نظرت يوما لرقم لا أعرفه ظهر على شاشة الهاتف المحمول بعد انتهاء الحرب بأسبوع فإذا به عيسى يسأل عن الحال والصحة , لم أتمكن حينها من مبادلته الحديث وقد ألجمتني معنوياته المرتفعة وصوته الباسم و خارت قواي الصحفية وعجزت عن الكلام ولم أدر هل أعزيه في كل أسرته المستشهدة أم لا أحاوره وكأن الأمور بالنسبة له على طبيعتها .

وسألني مرة عن عدد أطفالي فأخبرته أنهم اثنين فقال مازحا "لليوم معك ولد وبنت فقط بدنا يكون معك خمسة ستة.. " وعلمت بعدها أنه مودعا فالتقطت معه صورة تذكارية قبل شهور ليبقى وجهه ماثلا أمام عيني.

ومن لطائف القول أنه أطلق بوق عربته قربي وأنا في السوق قبل شهور ونادى كأنه أحد سائقي الأجرة "طالع على البريج" فسلّمت عليه بعد غياب طويل , وحدثني أحد أصدقائه أن عربته تلك كانت تشبه عربات الأجرة وكان الناس يحسبوها كذلك فيشيرون له بأصبعهم طلبا لخدمة التوصيل فيرد نافيا بسبابته إلى أعلى ويقصد "إن شاء الله ذاهب إلى الله" .

واليوم وقد رأيت عيون أهله وأصدقائه متقرّحة من البكاء على تأكدت أن مشواره فد انتهى لكني عشت حالة من الحيرة وأنا أفتح حاسبي المحمول وأكتب عن شهادته تلك التي جاءت بعد محاولات اغتيال كثير كنت أكتب بعد فشل كل واحدة منها أن القصف نال من جسده وزاد أحزانه , واليوم لا حزن ولا نصب ولا تعب بعد اليوم يا أبا بلال ! .

 

 

البث المباشر