قائد الطوفان قائد الطوفان

ياسمينة الدار ومدرجات الكرمل.. ذكريات "عنبر" في حيفا

ياسمينة الدار ومدرجات الكرمل.. ذكريات "عنبر" في حيفا
ياسمينة الدار ومدرجات الكرمل.. ذكريات "عنبر" في حيفا

الرسالة نت - ياسمين عنبر

لا شيء، لا شيء أبدًا تريد هذه التسعينية، ماتت أمنياتها منذ سبعين عامًا، وقتَ أن رأت أباها قد صعد على سلم خشبي إلى سقيفة البيت "الخبيئة" كي يخرج شيئًا يسيرًا من المونة التي يخزنها للموسم القادم ناويًا الخروج من حيفا.

ثمة كلمتان اخترقت سمع التسعينية "أم علي عنبر" وهي في الثانية عشرة من عمرها فغيرت كثيرًا منها، لم تكن الكلمتان فقط بل رجفة صوت أبيها ودموعه أيضًا حين قال: "سنغادر حيفا"!

نعم.. مر سبعون عامًا، لكن أمنية واحدة لم تغادر "أم علي".. هي ألا يصيبها الزهايمر فيعصف بقلبها وعقلها فينسيها ياسمينة باب الدار والسمان أبو أحمد وحلة الشاي لجارات أمها ومدرجات الكرمل وبائعة الجبنة واللعب مع أبناء جيرانها.

كان من جميل الصدف أن تعلم "مراسلة الرسالة" أن هناك حيفاوية تقطن في "سوريا" وهي التي ما تزال تبحث منذ سنين عن "عجوز" عاش في "حيفا" ليحدثها عنها وعن خراريفها قبل النكبة.

فعبر "السكايب" عاشت مع التسعينية "أم علي" أجواء حيفا وأزقتها وناسها وعاداتها وأفراحها وأتراحها وتجولت فيها روحًا، ميقنة أن الجسد أيضًا سيكون قريبًا هناك.

"يا ياسمينة الدار لا بد ما نعود مهما طول المشوار" قالتها التسعينية الحيفاوية مستهلة حديثها معتذرة لأبي عرب أنها استبدلت "توتة الدار" بياسمينتها.

ياسمينة الدار التي كانت تفتتح "أم علي" صباحها تحت ظلالها، حيث اجتماع بنات الحارة للعب "دور ودار، وشبرة قمرة، وأنا النحلة أنا الدبور"، توجع ذاكرتها منذ سبعين عامًا.

إلى غزة كانت وجهة عائلة "أم علي"، تحكي: "رغم أن أغلب أهالي "حيفا" ذهبوا إلى لبنان، إلا أن أبي اختار غزة لأنه كان يظن أن العودة بعد أيام وإن طالت الغيبة فشهر أو شهران".

كما أنه من الصدف الجميلة أيضًا أن "أم علي" حين أتت إلى غزة، كان هارون الرشيد جارها، فكثيرًا ما كانت تسمعه يدندن "وما زال بين تلال الحنين، وناس الحنين، مكان لنا.. فيا قلب كم شردتنا الرياح، تعال سنرجع هيا بنا".

لم تبكِ "أم علي" خلال حديثها مكتفية بالقول بنبرة تأنيب ضمير: "كلنا نعرف أننا قضينا سبعين عاماً ونحن نبكي ولا فائدة من البكاء"، مدركة أن الدموع لا تعيد المفقود ولا تسترجع الأبناء الذين تركهم أهاليهم في حيفا يوم الهجرة اللعينة كما تصفها.

"فكما يقولون... كل دموع الأرض لا تستطيع أن تحمل زورقًا صغيرًا يتسع لأبوين يبحثان عن طفلهما" تحكي الحاجة التسعينية.

فراغ مروع أصاب قلب التسعينية "أم علي" حين اضطرت للهجرة خارج غزة، فقد كانت "من ريحة البلاد" لتنتقل بعدها للعيش في سوريا حيث مخيمات اللاجئين التي كانت تبكيها وتشعرها بذل كبير.

أكثر من 12 دولة عربية وأوروبية عاشت بهم "أم علي" غير أن قلبها لا يتوق إلا لحيفا وعيناها لا ترنو إلا لها، "حيفا أكثر من مجرد ذاكرة، حيفا هي الروح"!

مدرجات الكرمل التي كانت "أم علي" وعائلتها تقضي بها إجازاتها الصيفية لم تنسها يومًا، "كثيرًا ما أطلب من حفيدي أن يريني صور دالية الكرمل" تقول متنهدة.

كما أن حلة الشاي الكبيرة التي كانت والدتها قد أعدتها حين اجتمعت نسوة الحارة في بيتهم وقت أن اشتد القصف على حيفا، بقيت في ذاكرة التسعينية وتحكي عنها بسعادة غير أن غصة بانت على صوتها حين قالت: "بس يومها ما شربوه طلعوا يدوروا على أولادهم المفقودين".

"أم علي" التي اكتوت بنار الهجرة والغربة معاً، لم تتكئ طوال سنوات البعد هذه إلا على ذكريات "حيفا" التي لم تدع فرصة تسنح لها إلا وتحكيها، "كي لا ينسى من بعدنا حين نموت".

الأماكن السياحية جميعها التي ذهبت إليها "أم علي" كانت بمثابة أماكن بلا روح، وهي تعد أن شبرًا من "حيفا" كما تقول أفضل بالنسبة لها من كل المساحات الشاسعة التي زارتها.

"عشت 12 سنة في حيفا بس بتذكر كاني عشت فيها خمسين سنة"، تقول التسعينية "أم علي" مستنكرة سؤال "مراسلة الرسالة": هل تذكر كل شيء في حيفا؟! كونها غادرتها صغيرة.

لم يكن حب "أم علي" لحيفا مجرد حلم أو شعور عابر، تدرك ذلك حين تحكي: "درست التاريخ كي أحفظ أزقة حيفا زقاقًا زقاقًا وعملت مدرسة خمسين عامًا كي أصف للأطفال حيفا والوطن السليب".

"نيسان" هذا الشهر الذي تمقته الحيفاوية "أم علي" وحيفا أيضًا، تصادف أن يكون حديث "الرسالة" معها فيه، حيث الوجع الحقيقي حين تروي كيف هجر أهل "حيفا" في الثاني والعشرين منه رغم أنهم كانوا ينوون الصمود في أرضهم رغم زخات الرصاص فوق رؤوسهم.

فقبل هذا التاريخ بيوم كانت حيفا لم تتوقع شيئًا، حتى باغتها قصف من جهة الشرق من تلال الكرمل العالية، تكمل الحاجة: "أصبحت القذائف تطير فوق رؤوسنا".

لم تكن تعلم يومها "أم علي" أن الاحتلال لا يهمه براءة طفل يريد أن يشتري الحلقوم من بقالة الحارة، لتأتي رصاصة غير طائشة وليست عبثية وتصيب رجلها مع بدء منع التجول.

كانت الحيفاوية ذات الثانية عشر ربيعًا وقتها قد هربت من البيت بغير استئذان والدتها، تصف الحاجة "أم علي" لحظات إصابتها وكأن الحدث بالأمس: "مر إسعاف لم يستطع الوقوف لأنه يحمل إصابة خطيرة.. لم ينقذني من وابل الرصاص أن يصيبني بشكل أكبر إلا صوت السمان "أبو محمد" الذي صرخ بصوت عالِ: "انبطحي يا سعدية على الأرض".

أثناء انبطاحها على الأرض وصراخها من الإصابة جاءت "أم صبحي" بائعة الجبنة التي كانوا يصحون على صوتها وهي تلف في أزقة حاراتهم، مضحية بحياتها لأجل أن تنقذ "سعدية"، وأخذتها إلى البيت رغم أزيز الرصاص.

في الثاني والعشرين استيقظت "حيفا" على رعب عم أرجاءها، زاده هجوم منظمتي "الهاجناة والأرجون" الصهيونيتين، في عدوان أطلق عليه اسم "المسبرايم" أي المقص بالعربية.

"المقص" يعني أن هذه العصابتين قد هاجمت "حيفا" من ثلاث جهات، الأولى من منطقة الهدار باتجاه وادي النسناس ومنطقة البلد، والثانية من البلدة حيث المركز التجاري باتجاه الهدار، والثالثة من الهدار باتجاه حي الحليصة!.

"هيهات أن يطوى حزن اللاجئين المهجرين من حيفا" تحكي "أم علي" وهي تعلم أن "حيفا" ليست كأي قرية أو مدينة هجر سكانها منها، وراحت تحكي "سيبقى الحنين إلى حيفا يوجعني إلى أن أعود أو يعانقني الكفن" وأنهت الحديث.

البث المباشر