ضحكة فقط، كانت الإجابة في كل نقاشاته مع أمه، حين تترجاه ألا يفجعها باستشهاده كما تلوعت على فراق إخوتها الستة قبل عشرة أعوام، فلطالما أخافته بأنها لن تسامحه، فيضحك قائلًا: "يوم ما تسمعي اني استشهدت بتزعردي وبتسامحيني.. عارفك قلبك طيب يما".
في بيت الشهيد "حمدان أبو عمشة" يبدو الأمر مختلفًا، فالبوح الذي تستقبلك به أمه لافتًا، كما أن ابنه الذي لا يفلت من يديه علمًا لفلسطين يثير فضولك، أما أخته التي لا تتوقف عن البكاء والابتسام معًا تدرك حين تجالسها أن شريط الذكريات يمر أمامها فيبكيها ويضحكها حسب المشهد!
كأنما أصبح العلم عضوًا جديدًا في جسد طفل الشهيد "إسماعيل" ذي الخمس سنوات، حيث لم يترك علم فلسطين الذي كان يحمله أبوه وقت استشهاده، إلا حين صرخ لأمه وجدته: "يعني لمين أنا بدي أحكي بابا!".
هو ذات العلم الذي رفعه والده في المسيرة وحارب به لاسترداد وطنه، سيبقى في ذهن الصغير حتى يكبر، حتى لو تمكنت أمه من انتزاعه منه حين ذهابه للنوم.
"أنا أخت الشهداء الستة" تحكي والدة الشهيد "أبو عمشة" قبل أن تنفجر باكية: "ودعت ستة من اخواتي والله ما حرقولي قلبي زي ابني حمدان كان نور عينيا وسند قلبي على أوجاع الحياة".
أخت الشهيد الكبرى التي كانت تنصت لحديث أمها وتبكي بصمت، لم تفلت من يدها صورة أخيها الشهيد الذي أتى بها ابنه، تحكي بحسرة بدت على ملامحها: "كان فرحة عيدنا وسبب ضحكتنا، كان فقير بس كريم كتير علينا".
بنبرة بريئة يقاطع ابن الشهيد الأوسط ذي الأربع أعوام جدته، وهو الذي كان يقتعد حضنها يستمع لحكاياها: "قتلوا اليهود بابا براسه أنا لما أكبر بدي أطخهم كلهم".
لم تكن تتوقع الستينية "أم حمدان" أن تكون فرصة العمل التي ظل يبحث عنها "حمدان" سنين طوال، سببًا في غيابه عن ناظريها للأبد، فلطالما شجعته على البحث عن عمل يستطيع من خلاله أن يطعم صغاره الأربعة.
على الحدود الشمالية لقطاع غزة، وجد "حمدان" فرصة عمل في مزارع أشتال البصل قبل استشهاده بخمسة أيام، مع رفيقه وابن جيرانه "ساري أبو عودة" الذي استشهد معه.
دهشة كبيرة أبدتها أم حمدان حين أخذت تروي قصة تعلق ابنها برفيقه "ساري"، وبكت حين قالت: "كان كل واحد يحكي للتاني إذا متت حأموت وراك (...) وفعلًا ماتوا مع بعض".
"في بلادي شهيد يسعف شهيد يودعهم شهيد ويصورهم شهيد" لم يكن كلامًا عابرًا نردده في غزة، تدرك ذلك حين تسرد والدة الشهيد "حمدان" عن استشهاده و"ساري"، تحكي: "زي ما كنا مصدومين من علاقتهم بالدنيا انصدمنا من طريقة رحيلهم سوا".
حيث لم يستطع "حمدان" إلا أن يؤدي واجب النخوة حين سمع صراخ أحد الشباب المصابين بالقرب من السياج الحدودي، ليركض نحوه ملقيًا أشتال البصل التي كان يحملها على الأرض.
فما إن اقترب "حمدان" من الشاب ليسعفه حتى قنصه جنود الاحتلال برصاصة في رجله، ليركض نحوه صديقه "ساري" كي ينقذه، "وقفوا الاتنين حاضنين بعض يمشوا للاسعاف قنصوهم براسهم واستشهدوا" تحكي الأم باكية.
في ثلاجة الموتى رافق "حمدان" ساري" جنبًا إلى جنب، فيدا "ساري" اللتان عانق بهما "حمدان" أثناء إسعافه له بقيتا مفتوحتين على حالتهما، ليرحلا سويًا تاركين جرحين لن يندملا في بيتين متجاورين!
تركنا بيت الشهيد "حمدان" و"ساري" ولم يترك ذاكرتنا طفلاهما "إسماعيل" و"وليد" بربيعهما الخامس، تمامًا كما سيبقى السؤال الذي سيسأله كلاهما لوالدتيهما قبل النوم "وين بابا" ليكون الجواب واحدًا "بابا راح عالجنة".