قائد الطوفان قائد الطوفان

"حرائق مدينة الشغف" التي لا تنتهي

رواية
رواية


 
رشا فرحات


حينما أتت الكاتبة سماهر الخزندار لزيارتي بعد أن انتهت من كتابة روايتها "حرائق مدينة الشغف" كانت مرهقة للغاية، وكأنها خرجت لتوها من معركة، وأخبرتني أنها حتى اللحظة لا تستطيع الخروج من عالم الرواية، وما زالت تحت تأثير شخصياتها، فتعجبت


ولكن حينما وصلت الرواية إلى يدي، وبدأت بقراءتها شعرت بما شعرت به الكاتبة في ذلك الوقت، هذه رواية مسكونة بكل ما يدور في دواخلنا، نحن أبناء غزة التي كتب عليها الحرب والحرب والحرب، ولكننا نستطيع أن نفعل شيئا آخر غير ذلك، نستطيع أن نحب، جميعنا، وهذا ما نجحت الرواية في إيصاله لي، وانا أعتقد أن الكتابة عن الحب والمحبين وعن الباحثين عنه لهو أمر في غاية الصعوبة


تبدأ الكاتبة روايتها قائلة: كلوا وصلوا وغنوا للحب الرخيص ثم اخرسوا! دقيقة صمت على أرواح الصغار الذين قضوا في حريق، أضرمته شمعة سقطت على حصيرة، ثم إذا شئتم عودوا وغنوا قليلا لمدينة المتناقضات، بريئة وآثمة، قديسة وعاهرة، مدينة الشهداء، والعملاء العامرة، غنوا لبهجة أطفالها المسفوكة، غنوا لصبر شبابها، غنوا لحرائق البيوت الصغيرة، غنوا لقلب يرقص على نصل الحيرة المتأرجح، حين يصعب التميز بين المجرم والضحية.
غنوا لأسرى مدينة الحب الذي لا يكتمل، لتلك الغانية التي تتشح بأشلاء أرواح العاشقين المتعبة وتحتفل...
غنوا لغزة...غزة ترحب بكم

 

تلك الأسطر التي كانت في بداية الرواية تختصر كل الحكاية، والتي قد تظن أنها للوهلة الأولى قصة فتاة اسمها ياسمين، تزوجت ثم طلقت من زوجها الخائن، ثم تتزوج أمريكيا فلسطيني الأصل وتتركه لأنه في ذات حرب طلب منها أن تهرب معه إلى أمريكا، ثم تختم حياتها بزواجها من يحيى قائد المقاومة الذي يحبها منذ الصغر، قائد المقاومة الذي يصلي ويغني، ويضحك، ويعشق ويغازل، كما كل الرجال، قبل أن يودع أحبابه كل ليلة وكأنها ليلته أخيرة.

ثم تستنتج أن هذه الرواية ليست رواية يحيى وياسمين بل هي رواية عائلة،أو حارة في مدينة غزة تتقارب وتبتعد تبعا للمشاعر والاختلافات السياسية، ثم تتغلب مشاعرها على كل شيء


هنا ستجد الأرملة، وطلاب الجامعة الذين يرابطون في المساء، ويعشقون في الصباح، والأخوة المحبون لبعضهم رغم خلافات، والقائد الذي يركض طمعا في مقام أو صورة، والأسير الذي يبحث عن حياة بعد خروجه في صفقة تبادل، والأصدقاء الذين يحتجزون في نفق تحت الأرض في عز الحرب والموت، وأم الشهداء التي تخرج من رحمها حياة طفل جديد في اليوم الذي تودع فيها أبناءها الثلاثة شهداء

 

ولعل الأحداث التي بدأت بياسمين وانتهت بها وهي تودع يحيى شهيدا كانت كلها مسطرة بأسلوب سلس وجميل، ولكنها لم تثر إعجابي بالقدر الذي أثارت به اللغة اعجابي، لغة الكاتبة لطيفة ومعبرة استوقفتني كثيرا، وهي تتنقل بين الفصحى واللهجة العامية الفلسطينية بشكل مريح، وبأسلوب بديع وينم عن خبرة جيدة، رغم أنه العمل الأول للكاتبة الخزندار

 

والملفت أيضا في الرواية أنها لم تذكر اسم فصيل أو حزب، بل نجحت في ترك الأمر مفتوح للقارئ حتى يستنتج، ولكني أعتقد أنها لم تسلط الضوء على تبعات الحصار كثيرا، وقد كان بإمكانها ذلك، فالمعابر لم تكن حاضرة، والانقسام لم يكن حاضرا بالشكل المطلوب، وتبعاته التي نعاني منها لم تكن حاضرة أيضا بصورتها القوية والحقيقية ، وأزمات الفقر والصحة والحاجة والبطالة لم تكن حاضرة !  ولكني عذرت الكاتبة فحرائق مدينة الشغف لا تنتهي ببساطة

 

والأجمل والأصدق تصويرا كان في في الجزء الأخير من الرواية


ببساطة حينما  حضرت الحرب، أغلقت كل أبواب الحب السابقة في الرواية، تجسيد الكاتبة للحرب كان مروعا ومرعبا ومبكيا، يسوق غزة إلى نهاية واحتضار كل مرة، ثم تقوم في السطر الأخير من الرواية وياسمين تشرق من جديد بعد رحيل يحيى لتقول سطور الرواية


إذا استسلمت لضعفك وتركت أهواءك ترسم خط سيرك أو تثقل مسيرك فانت على الأرجح لست الشخص المناسب لحمل الرسالة"

 

وفي نهاية هذه السطور أحب أن أقول إني ممتنة للكاتبة جدا، فهذه رواية تسكنك حينما تدخلها وتأخذك إلى حرائق غزة التي لا تنتهي إلا لتبدأ من جديد، ولأهلها الذين يبحثون عن الحياة في كل صوب، ويصرون على الفرح والقيام من جديد، ويكتمون أحزانهم، ويجرفون ردم بيوتهم ليبنوها من جديد، وإذا ما رحل أبناؤهم فإنهم ينجبون أبناء جددا هكذا بكل بساطة، يجب أن يعيشوا ويكملوا الطريق

 

الكاتبة سماهر الخزندار هي موظفة في وزارة الصحة الفلسطينية وقد درست اللغة الإنجليزية في جامعة الازهر بغزة ومتزوجة وأم لأربعة أطفال، بدأت حياتها الكتابية في عالم التدوين، حتى نشرت هذه الرواية وهي روايتها الأولى

البث المباشر