إلى بيت العائلة القديم ذهب فريق الرسالة يسأل عن وجع عائلة القيشاوي، ليرى اكتظاظ المعزين والمهنئين على بابهم، وصور الشهيد "محمود" معلقة في الأرجاء، صاحب ابتسامة وضاءة كشروق الشمس، وعينين خضراوين ووجه تعمه السكينة والهدوء.
وما إن دخلنا من باب البيت حتى قابلتنا والدة الشهيد محمود القيشاوي، مرحبة بابتسامة تليق بأم شهيد وهي تلف كوفيتها الخضراء حول عنقها، فخورة بابنها، حائرة من أين تبدأ كلماتها حينما جلست أمام الكاميرا تخنقها العبرات، ولا تجد الكلمة المناسبة لتعبر بها عن جمال الشهيد وعنفوانه.
استجمعت قوى قلبها وقالت: "إن العين لتدمع والقلب ليحزن ونحن على فراقك يا محمود لمحزنون".
ثم بدأت بصوتها المرتجف تصف مناقب ابنها الشهيد الذي عرف بأخلاقه العالية وحبه للعطاء، بضحكة لا تفارق وجهه، يعطي إخوته وأهله وأصحابه دون حساب، ودون أن ينتظر المقابل، يدخل الفرح إلى قلبي فور دخوله إلى البيت، بضحكاته ومداعباته، وحنانه الذي لم أر مثله.
وتخبرنا والدته عن يوم ما قبل استشهاده: "كان قد دعانا لتناول الغداء يوم الجمعة، وبينما نحن نأكل كان هو جالسًا يتفرج علينا بفرح يغمره كالعادة حينما نجتمع، فنظرت إلى وجهه وتذكرت منامًا رأيته في تلك الليلة الأخيرة فقلت له: "شفتك يا إمي بالمنام ووجهك بشع نور زي خالك بالضبط الله يرحمه"! لافتة إلى أنها أخت لشهيدين سابقين، مضيفة: "محمود من صغره قرر أن يكمل طريق أخواله، وكان له ما أراد".
وتكمل حديثها متذكرة رد محمود على كلماتها حيث قال: " أنت مستعجلة علي يمه ؟! "
ثم تتأمل اللحظات الأخيرة وتسرح بخيالاتها إلى ما قبل استشهاده بساعات وتقول: "هاتفته بعد صلاة الظهر، وقلت له إنني طبخت له طعامًا يحبه، وقلت، تعال يا محمود تغدى يا إمي، ووعدني أن يأتي، ولم يأت".
أما زوجته أم سعيد، فقد ابتسمت مسترجعة طيب خلق محمود قائلة: "لقد كان لي الأب والصديق والأخ والمحب، والذي يغدق عليّ من حبه واهتمامه كثيرًا رغم أن ساعات جلوسنا معًا بسبب عمله في المقاومة كانت قليلة، ولكنني كنت راضية، وكنت أتوقع مصير محمود في أي لحظة، منذ اليوم الأول لخطبتنا، وتكمل: "رضيت بقضاء الله وقدره، وكنت أدعمه وأقف إلى جانبه، وأحيانًا أرافقه في بعض مهامه، محتسبة سعيدة فخورة به".
ومن بين ابتسامتها الحزينة تكمل زوجته حديثها وهي تضم أبناءها الثلاثة جنى وسعيد وسارة إلى حضنها: لقد كان محبًا لأبنائه، دائم الضحك والمداعبة لهم، وخاصة سارة لأنها شديدة الشبه به، فقد كان تواقًا لرؤيتها وهي كبيرة، وكان دائمًا يقول لي: متى ستكبر سارة؟! كان متشوقًا جدًا لرؤيتها تكبر سعيدًا بالشبه الذي يزداد بينهما كلما كبرت يومًا آخر.
أما جنى ذات الثلاث سنوات، فقد وقفت فخورة بفستانها الأبيض، ووصفت لنا كيف أن والدها أوصلها للروضة يوم استشهاده على غير عادته، فقد كانت متعودة أن توصلها جدتها كل يوم إلى الروضة، ووقفت تشير إلى صورة والدها وتردد: "بابا راح على الجنة"، بينما وقف سعيد ابن العام والنصف، يزاحمها في الوقوف إلى جانب الصورة مقلدًا لكلماتها: "بابا راح على الجنة"، وحتى سارة الصغيرة ذات الثمانية أشهر، كانت تبكي بحرقة وما إن تقف أمام صورة والدها حتى تهدأ وتبتسم وهي تتحسس ملامحه.
وطوال فترة المقابلة التي امتدت لأكثر من ساعة جلس "حسن"، الذي لا يتجاوز الثالثة والعشرين في زاوية الغرفة يبكي بحرقة مخبئًا وجهه بين كفيه.
شقيق الشهيد تخرج من الجامعة قبل ثمانية أشهر، ولم يبق له من شقيقه سوى صوره وأبنائه في حفل تخرجه، ذكرى جميلة ظننا أنها الوحيدة التي سيخلدها "حسن" في ذاكرته، حتى أخبرنا بذكرى أخرى لن ينساها أبدًا، قائلًا: حينما وصلت إلى العام الدراسي الأخير، ازداد وضعنا المادي سوءًا مع ضيق الحال السائد في غزة، فلم أستطع أن أسجل في الجامعة، وقررت تأجيل تخرجي.
ويكمل: "حينما عرف محمود بالأمر أعطى أمي مصاغ زوجته لتبيعه، حتى أتمكن من التسجيل والتخرج في الموعد المناسب مع زملائي! ثم يردد من بين دموعه: "لا أنسى وقفة محمود إلى جانبي، في تلك اللحظة وفي كل لحظة، كان مثالًا للأخ، الأب، الصديق، الذي تجده إلى جانبك في الوقت المناسب".
محمود القيشاوي استشهد يوم السبت الماضي مع خمسة من رفاقه في كتائب القسام إثر انفجار في المنطقة الوسطى من قطاع غزة وصفته كتائب القسام في بيان لها بأنه "حدث أمني خطير وكبير أعده العدو الصهيوني (إسرائيل) للمقاومة الفلسطينية".