قائد الطوفان قائد الطوفان

دواء لم يأتِ!

بقلم: رشا فرحات

وقفَت أمام مرآتها تعقص طرف الضفيرة على جانب كتفها الأيمن قبل أن تتحول لضفيرتها الأخرى، شعر ذهبي اللون تعودت ضفائره الناعمة الاسترسال على أكتافها كسنابل القمح الصفراء، تأملت ملامحها الباقية على حالها هذا منذ سبعة أشهر، مغلفة بتلك النظرة البائسة المتوجة برغم كل شيء ببصيص أمل هو حيلتها التي تعيش عليها الآن ...وغدى وجهها كالصحراء الشاسعة القاحلة الصفراء ولكنها على صفار سطورها واسعة جميلة مريحة دافئة الرمال ..

سبعة أشهر هي عمر دخول زوجها إلى المشفى كقرار أخير لانتظار قدر سوف يأتي حتماً وهي وحدها فقط من يرفض تصديق ذلك ، وتصبر نفسها بالاستماع إلى نشرات الأخبار لعلها تجد خبراً عن دخول ذلك الدواء إلى قطاع غزة أو تحويل مريضها لاستكمال علاجه في إسرائيل، تلعن وتسب أيديهم التي حولتنا عبيداً لإسرائيل ومهانتهم التي جعلتهم يعيثون بأرواحنا لطماً وضرباً وقتلاً وإذلالاً ...

تذكرت وجهها قبل سبع سنوات، حينما كانت تقف وقفة كهذه تماماً أمام نفس المرآة وتعقص ضفائرها بنفس الطريقة التي لم تغيرها حتى اليوم ..إكراماً له.... في ذلك الوقت كانت تعد الأيام والليالي كما تعدها الآن لكي يأخذها إليه حيث كان يقيم ويعمل في إحدى المدن العربية، كان الوضع مختلفاً أكثر حيث أصرت وقتها على تعليق أحلامها في حبال أحلامه لثلاث سنوات متتالية ترفض فك ضفائرها من أجل غيره، لم يستطع تدبر أمره لأخذها إليه في وقت غضب العالم فيه على الفلسطينيين ومنعت كل الفصول من تحمل عواصفهم وغدوا رياحاً قوية تهدد أمن العالم بأسره فحكم عليهم الجميع بالطرد من أراضيهم دون سبب ..

وعادت تلعن وتسب تلك الأنظمة التي تتلذذ في التفرج على دمائنا المتصببة وجراحنا التي تنزف يوما بعد يوم ...والتي أجبرت زوجها على ترك عمله هناك مؤثراً العودة إلى جانبها على استبدالها بامرأة أخرى كما كان يرى أهله..وأتى أخيراً ليحقق لها الأحلام التي رسما معاً خيالاتها عبر مكالمات العشق القصيرة، كانت تواسيه دوما لقلة الحال..للأحلام التي لم تعطهم تلك الأيدي فرصة لتحقيقها ..

توقفت عن التفكير لبرهة والتفتت نحو الباب الذي فتح كعادته في نفس الموعد لترى آخاها واقفاً على عتبته بوجهه المكلوم كعادته أيضاً، منذ مرض زوجها..قفزت إليه يدفعها الأمل لتسأله عن وصول جرعة الدواء المنتظرة، وهل وافقوا على إدخال الأدوية للمرضى؟؟!!  فيهز رأسه بالرفض ويصف لها حالة المعابر اليوم وبأن هذا الوضع سيطول حتماً ويمهد لها الطريق لتتقبل ما سترسله الأقدار لها، ثم يذهب دون أن يضع بين يديها كلمة لمواساتها فهو يعلم أنه لا أكثر ألماً من مواساة لا طعم لها ولا قيمة في هذه اللحظات الأخيرة ، وتلك الجرعة اللعينة لن تأتي، وإذا آتت أيضاً فسوف تأتي بعد فوات الأوان ..

نكست رأسها بين يديها كما تنكس الأعلام حِداداً على عظمائها متوسلة متضرعة إلى الله ليرحمها وزوجها من هذا الانتظار الطويل  .

تركت بقايا أحلامها معلقة في مرآتها وذهبت لترى بقايا ذلك الجسد الملقى على ذلك السرير الأخضر في انتظار جرعة دواء قد لا تأتي في موعدها، تعد لحظات الحياة والأمل ببسمة ترسم على شفاه مريضها دون قصد منه لتعطيها دفعة تقوى بها على الحراك .. ماذا تفعل الآن بدونه؟  إلى أين ستذهب بالأرواح المعلقة به؟!! وقد أصبحوا أربعة الآن؟؟ ، تتوسل إليه بأن ينهض من هذه اللفائف البيضاء، تتوسل السماء  بأن ترسل إليهم معجزة تعيد ترميم هذه العظام لتقوم من اجلها ومن اجل أطفالها. أتراه يعلم كم من الأرواح ماتت الآن لغيابه ،أتراه يحلم الآن كما تحلم هي بلحظة العودة إلى ذلك البيت الدافئ، لتسدل ضفائرها على أكتاف عشق لم تفرح به طويلاً.

لكن المعجزة لم تأتِ والزمن قد توقفت ساعته عند الساعةِ الثانيةِ ظهراً، تلك الدقيقة التي لفظ فيها زوجها أنفاسه الأخيرة ..

أعطته نظرة أخيرة من ثنايا ابتسامتها الصفراء الملطخة بصرخات الصبر والحقد والغضب ....ثم أخذت معها بقايا رفات أحلامها وخرجت ..تاركة وراءها أنفاسا أخرى تنتظر جرعة دواءِ لا تأتي...

البث المباشر