حينما تدخل إلى خزاعة، ستدخلها من طريق طويل يصل بك إلى الحدود مباشرة، يفصل بينك وبين الحدود جدار اسمنتي صب خصيصا لتفادي رصاصات الاحتلال الإسرائيلي والتي كانت تصل إلى عمق هذا الحي، حي آل النجار.
وهناك على بعد منزلين أو ثلاثة من ذلك الجدار نبتت زهرة برية، اسمها رزان، ألقمتها أمها عزة النفس وقوة القلب، فأصبحت لا تهاب محتلا ولا ترى سلكا فاصلا بين غزة والأرض المحتلة، هنا نحن مزروعون على جانب السلك وهناك على الجانب الآخر من أرضنا يقف المحتل بدباباته وآلياته وبندقية من وراء جدار، يسلطها على قلب رزان وصديقتها وممن رفعوا راية الرسالة الخالدة، وهم يلبسون معاطفهم البيضاء لإنقاذ الجرحى والمرابطين في مسيرات العودة، حتى أصبحت واحدة منهم ضمن القافلة التي قررت التحليق نحو السماء، ذلك المساء.
ارتقت "رزان النجار" -21 عاما- شهيدة الجمعة الماضية، وتحديدا قبل غروب الشمس بدقائق، وهي تعد أمها على الهاتف بأن تعود لترتب معها مائدة الإفطار، ولكنها لم تعد.
وجهها الجميل المتفتح كزهرة، تناقلته صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، ما بين مكذب ومصدق للخبر، وكأن ليلة الجمعة كانت مصرة ألا تغادر قبل أن تحلق عصفورة في السماء، بينما في ذات اللحظة كان مجلس الأمن يناقش ويتشاور ولا ينتهي من التشاور، ليعطي غزة فرصة في الحياة، وتناقضها الولايات المتحدة وخلفها "إسرائيل"، في إصرار وقح على قتل غزة للمرة المليون، وخنق عصافيرها.
رزان التي كانت ترتدي وزملاؤها زيهم الطبي، الملون بالألوان الفسفورية، شعارا للأعمى قبل البصير، ليرى أنها تتبع هيئة الإغاثة الطبية، ولكن قناصة الاحتلال اتبعت نزعة القتل التي يعشقون.
وحينما كانت رزان برفقة أربعة من زملائها يركضون نحو السلك الشائك لإخلاء الإصابات، تحت قذائف الغاز المنهمرة فوق رؤوسهم وهم يرفعون أيديهم، وبينهم وبين الجندي أقل من عشرين مترا، يراهم ويرونه، ويعرف أنهم يتبعون مؤسسة طبية، لكنه لم يتوان عن إطلاق النار فسقطت "النجار" فورا وأصيب زملاؤها إصابات متفاوتة، هذا ما قاله زميلها المصاب برفقتها محمود عبد العاطي، من بين دموعه وهو يلوح لجثمان رزان التي شيعت ظهر يوم السبت.
أما زميلتها رشا قديح، رفيقة اللحظات الأخيرة أكدت ذات الرواية، قائلة: رزان كانت جسورة مقبلة دائما وتشجعنا على الاندفاع نحو المصابين دون تفكير، فرغم إغمائنا التام، أصرت بعد إفاقتها على العودة لإنقاذ الجرحى، وبالفعل نجحنا بإيصال الجرحى إلى الخيام الطبية، وبينما نحن واقفون بجانب الخيام على بعد عشرين مترا، سقطت رزان، بشظية دخلت في صدرها وخرجت من ظهرها.
وتتابع رشا وانفاسها تتلاحق: وزملاء كثر، بدأوا يتساقطون جانبي، رامي أبو جزر ومحمود عبد العاطي، ومحمود قديح جميعهم أصيبوا إصابات متفاوتة، وبدأت تعلوا الصرخات، رزان أصيبت، رزان استشهدت، ولم أصدق، إلا حينما رأيتها بعنيني!
وللجميع أن يتعجب، ما قبل نهاية النهار، في الدقائق الأخيرة، وبينما رزان تتلهف للعودة إلى سفرة إفطار والدتها، تخرج الروح، فهل كان يعلم ذلك الجندي المختبئ على بعد أمتار، والذي أطلق رصاصات التسلية على روح رزان، ما معنى الفقد، ما معنى الحياة التي كانت تبحث عنها رزان، في خيام العودة، وبإمكانيات بسيطة.
وستتعجب أكثر حينما تبحث عما كُتب في رزان هنا أو هناك وتحتار أي الكلمات ستقرأ، وكأن تلك الزهرة الفواحة كانت صديقة الجميع، محبوبة من كل زملائها، نشرت عبيرها في الأرجاء، وآثرت الرحيل.
وبينما يهدد البعض الذهاب للأمم المتحدة لرفع ورقة هنا أو ورقة هناك تطوى ورقة رزان في ادراج المجتمع الدولي، الذي يلف وجهه حينما يتعلق الأمر بغزة، التي تعلن للعالم الآن وهي تطلق عصافيرها فوق رؤوس الذل العربي، بانها الوحيدة القادرة على الطيران.
وفي منزل والد الشهيدة أشرف النجار القديم على الطابق الثاني، يمكنك ان تصعد وتدخل لترى أم رزان تحتضن زي ابنتها الملطخ بالدماء، وباجتها التي كانت تعلقها على صدرها، وتقبلها مرة او اثنين بين كلمة وأخرى، لتستنشق عبيرا ربما ساعدها على تجرع صدمة رحيل ابنتها البكر.
ترفع والدة الشهيدة رأسها وتخبرنا عن قوة رزان، وجسارتها، وحبها لأخوتها:" كنت أقولها خلي بالك يمه، ما كانت بدها تروح يوم الجمعة، بعد الظهر غيرت رأيها، وقلبي كان مقبوضا، لحقتها على الشباك كانت رايحة، وما رجعت".
رزان التي أصيبت لأكثر من عشرين مرة باختناق بسبب قنابل الغاز، رزان التي كسرت يدها ذات مرة أثناء العمل، رزان التي تلطخت ثيابها من حمل المصابين وسحبهم، بقوة كان يتعجب منها زملاؤها:" جسمها ضعيف، وبتعرف كيف تسحب شاب وتطلعه من منطقة الخطر".
رزان التي طلبت منها شقيقتها ريعان أن تعطيها ملابس العيد، فردت عليها:" لما تخلصي امتحاناتك راح أجيبك أحلى منهم".
رزان التي كانت توزع الحلوى على زملائها من بين النار وقنابل الغاز، التي كانت مبتسمة على الدوام، كانت تواقة لحياة أجمل، كانت تبحث عن حياة وسط الموت، حتى اختارها الموت، وحلقت بعيدا، ولمثلها يجوز التحليق.