قائد الطوفان قائد الطوفان

مكتوب: طفلة الشهيد "الرضيع" تخاطب صورته: "بابا احملني والعب معي"

الشهيد القسامي محمد الرضيع
الشهيد القسامي محمد الرضيع

الرسالة نت - ياسمين عنبر

أصحاب الحاسة السادسة يدركون أن بعض القلوب التي تعيش معهم حتى حين، هي قلوبٌ لشهداءَ مع وقف التنفيذ.

فكان من الطبيعي على أم شهيد أن تعلم مسيرة حياة ابنها سيختتم سطره منها بالشهادة، وبأن ورقة شجرة عمره الأخيرة ستسقط بشرف، حيث تصرفاته لم تكن بشرية، بل قاربت الملائكةَ قداسة.

فكيف لفقير في هذه البلاد الجريحة، في مدينة أكل الحصارُ قلوب ساكنيها وأعمارهم، كيف له أن يفكر في بيع علبة دواءٍ فائضة لابنته المريضة لأجل أن يجلب الهدايا لأخواته المتزوجات ويصلهن في رمضان!

لم تنتظر مناقب الشهيد "محمد" أن تظهر حين وصولنا بيته ويبدأ ذووه بذكر محاسنه، فقد أدركنا أن حسن السيرة كالرذاذ ينتشر على مسافات بعيدة.

على مدخل حارة الشهيد، ثلاثة نسوة مشين مع "الرسالة" متوجهات إلى بيت الشهيد "الرضيع" فقالت إحداهن: "كان زينة شباب بيت لاهيا بأخلاقه"، لترد الأخرى: "زي محمد صعب يتكرر في حارتنا"، والثالثة لم تسعفها الكلمات فبكت بكاءَ أمِّ على فلذة كبدها.

"قلبي خبرني عن رحيل محمد نور عينيا" بهذا النزف بدأت الأم سرد حكايا ابنها، على باب البيت يوم الاثنين الماضي كانت تجلس تبكي أم الشهيد كثيرًا، لكنها سرعان ما تتذكر أن حياة ابنها يجب أن تسطر، فتلبس لثام القوة كما كل الأمهات الفلسطينيات حين يقررن الثورة ضد العاطفة كي لا يرى الجندي الإسرائيلي دموعهن فينتشي سعادة، وراحت تحكي حكايا ابنها.

 تلك الحكايا التي عاشتها هي معه، والتي سمعتها من قلوب من قدم لهم محمد معروفًا، فلم ينسوه أبدًا، "ناس اجت تعزيني من رفح لبيت حانون في محمد".

"مختار" هو الاسم الذي عرف به "محمد" والذي صمم أن ينادى به، رغم مزاح أخواته وزوجته معه بأن "كيف لشاب بعمر الثلاثين أن يكون مختارًا يصلح بين الناس ويمشي في قضايا كبيرة بينهم"!

إلا أنه بعد استشهاده، دهشت أمه من كثرة الأشخاص الذين قدموا إلى بيت عزائه وأخبروها بأنه سعى لحل مشاكلهم.

كان حدس الأم أسرع من أي وكالة أنباء بثت خبر استشهاده، على باب البيت كانت تجلس تستمع إلى الراديو، تكمل: "من أول ما حكى المذيع خبر استشهاد شاب قلبي انخلع من مكانه وصرت أبكي قبل ما يحكوا اسمه (..) قلبي حكالي انه محمد راح".

حافية القدمين خرجت الأم من بيتها لتتوجه إلى المستشفى الاندونيسي، فقد كانت لهفتها أقوى من كل ضعف يصيب جسدها، لأن تطبع قبلة الوداع على جبين محمد.

"من سيفتقد محمد؟" كان سؤالًا صعبًا من إحدى الجالسات، حيث الفقراء الذين كان محمد يبيع أغراض بيته كي يساعدهم، وزوجته التي كانت ترى فيه "أسطورة الأخلاق"، كما "أمه" التي لم تستطع إلا أن تقول عنه "نبع الحنان".

لم يكن من السهل على زوجة الشهيد "محمد" الحديث عنه دون غصة تقف بحلقها فتسكتها بين حكاية وأخرى، ذاك الذي رحل لم يكن زوجها فقط، بل كان "أبيها وأخيها وزوجها وصديقها".

بجانبها كانت تجلس ابنتها ذات الثلاث سنوات، التي أتت من رحلة علاجية في القدس قبل يومين من استشهاده "محمد"، تحتضن صورة أبيها وتهمس لعمتها: "خلي بابا يحضنني، خليه يطلع من الصورة ويلعب معايا".

فمن يخبر تلك الطفلة الصغيرة التي لم تفقه من الحرب شيئًا سوى صوت القصف المفزع ليلًا، أن أباها أصبح صورة معلقة في كل أرجاء البيت، وأنه سيكون كما لو أن كلا جناحيها قد قصّا برحيله إلى الأبد!

كشاطئ أمان كان "محمد" لزوجته، فتستريح إليه حين يلفحها التعب، فيخفف عنها الفقر مرض ابنتها، فلم يسعفها الحديث كثيرًا حتى اختصرت الحديث بـقولها "كان بلسم الجروح" وأسدلت ستار الصمت.

"حمادة" الأخ الأصغر للشهيد "محمد" كان قد قال له قبل أيام من استشهاده أن يستبدل النايلون الذي وضعه على شبابيك بيته بغطاء جلدي أقوى من النايلون الرقيق، ليقول له "محمد": "خلي الجلد عشان تطبعوا عليها صورتي وأنا شهيد".

كان ختام الحديث مع أخت الشهيد، تلك التي ودعت ابنها قبل أسبوعين فقط من وداع أخيها "محمد"، تعلم حين تسرد لك الحكايا أنه في غزة "شهيد يسعف شهيد يصوره شهيد يودعه شهيد يرثيه شهيد يكتب عنه شهيد".

ففي الرابع عشر من مايو، كان "محمد" قد ودع ابن أخته "سعدي أبو صلاح" حين ارتقى شهيدًا في قريته التي كان يحلم أن يعود إليها "دمرة"، فقد تجاوز السياج الحدودي على حدود بيت حانون، فوصل إلى قريته "دمرة" قبل أن تقتل رصاصة غادرة فرحته بالعودة، فبكى "محمد" لفراقه وهو لم يكن يعلم أنهما كانا على لقاء أبدي في وقت قريب.

"فتنت روحي يا شهيد" لطالما أنشدها "محمد" بعد استشهاد "سعدي"، وهو يخبر "أم سعدي" أنه يتمنى لو يلحق به في نفس الوقت ويوم الاثنين أيضًا، كي يرتقي صائمًا يوم أن ترفع الأعمال إلى الله، فكان له ما تمنى.

"كان بأخلاق الشهداء المصطفين" تحكي "أم سعدي" التي تشرفت بلقبين خلال خمسة عشر يومًا، فغدت "أم الشهيد" و"أخت الشهيد"!

وفي الثامن والعشرين من مايو ظهر يوم الاثنين، ارتقى الشهيد "محمد الرضيع" بعد قصف مدفعي للاحتلال الإسرائيلي، استهدف نقطة رصد للمقاومة شمال بيت لاهيا شمال قطاع غزة.

البث المباشر