في رابع أيام العيد، وبينما يبحث كل العالم عن فرصة لتسلية أو اجتماع عائلي، ويبحث الشباب عن رحلة بمشاركة زملائهم وأصدقائهم، يخالف أبناء غزة الطبيعة، فهم يبحثون عن انتصار، لا يأتي إلا من أصحاب القلوب الجاسرة المقبلة وهذا ما فعله الشهيد صبري أبو خضر وزملاؤه.
وإذا بدأنا الحكاية من الحارة التي عاش فيها الشهيد وتربى وكبر فستصل بك خطواتك إلى حي التفاح أحد أقدم الأحياء في مدينة غزة، لن تتعب كثيرا في البحث عن منزل الشهيد صبري أبو خضر، فهو بيت قديم مخبأ، كما بيوت كل الأسر المستورة، بين الأزقة، يتكون من ثلاثة أدوار، على مساحة لا تتعدى الثمانين مترا! يتقاسمه الأعمام جميعا وأبناؤهم، بل وأبناء أبنائهم.
وفي شقة بتلك البناية المترهلة، يسكن صبري مع زوجته في غرفة اقتطعوها من مساحة شقة العائلة التي لا تتعدى مساحتها الستين مترا، يقطنها عائلة مكونة من أب وأم وخمسة أبناء رجال، وابنة واحدة
قصة صبري واحدة من آلاف القصص، وحياة فقره نموذج يعكس واقع الألم والعوز والفقر في قطاع غزة، وأحلام تدفن قبل أن يفكر أصحابها بإخراجها إلى النور.
هذا هو صبري الذي باع مصاغ زوجته ليشتري حمارا يسوقه ليرتزق من جمع قطع البلاستيك أو نقل الحديد والأخشاب للمصانع مقابل أجر زهيد، أو إيصال كيس طحين لأحد البيوت أو معاونة ذلك في نقل معدات بناء أو ما شابه، مقابل بضعة شواكل.
فهل تعلم ما معنى أن يكون حلم الفقير متواضعا إلى هذا الحد، وما معنى أن يقتل الاحتلال حلمك؟!
أجل هذا ما قالته والدة الشهيد: "على الحدود، طخوا عليهم قبل خمس أيام ومات حماره"
برحيل الوسيلة الوحيدة لبعض حياة! تكتمل الصورة! ولكن ابتسامة صبري رغم العوز لم تفارق وجهه كما تقول أمه: " قلبه كبير، كان بتمنى يخطف جندي، أو يستشهد "
ذلك الشاب الذي يرسل ابتسامته لكاميرات المصورين من صورة معلقة على الجدار لم يكن يتمنى الموت، ولم يكن يبحث عنه، بل فعل ذلك حبا في الحياة، ليستمر ويلبي احتياجات زوجته ذات الستة عشر ربيعا التي بدأت تشعر "برفسات" جنينها الأول الذي سيأتي بعد أشهر في غياب أبيه.
هذا ما قالت والدته للرسالة من بين دموعها وهي تستذكر صورة ابنها وكأنه لم يكن قبل ثلاثة أيام يقف هنا إلى جانبها، ويعدها بأن يصحبها وزوجته وأخوته إلى شاطئ البحر في رحلة طويلة رابع أيام العيد، ولكنه لم يوف بوعده كما تقول والدته التي انتحبت حينما رأت صورة ابنها تعلق على الجدار للمرة الأولى، وانتحبت معها النسوة الجالسات لمواساتها، فلا يدري أي منهم أكثر قدرة على مواساة الآخر، لوجع بات في الكف، على قلب أم واحدة يذرفن جميعهن دموعهن فلا يفرق الداخل عليهن بين أم الشهيد والجالسات حولها.
أحد رفاق صبري الذي بكى بصمت في المستشفى وضرب بيديه حزنا على كل الأبواب والأسرة، ولا شيء يمكنه أن يعيد ما فقد في تلك اللحظة، حيث وصف لنا ما حدث قائلا: كنا خمسة ومعنا صبري، اتفقنا على القفز من وراء الجدار، واختراق السلك الحدودي، والذهاب إلى " مقصورة" الجندي على الحدود، وحينما تجاوزنا السياج باغتتنا طائرة الاستطلاع بقصف سريع اخترق رقبة صبري على الفور.
مضيفا: صبري لم يمت فورا، وإنما ركض للخلف وعدنا أدراجنا، وحينما وصلنا إلى ذات النقطة التي انطلقنا منها تمدد فوق ذراعي وابتسم وارتقى شهيدا على الفور، فقد كانت اصابته بالغة.
لا ينتمي صبري وأصدقاؤه لأي فصيل، كان يبحث عن نهاية مشرفة، تساوي حجم القهر الذي يسكن في القلب، قهر ورثه أبا عن جد، أورثهم إياه احتلال لا يعرف رحمة، وكما سلب الأرض، يريد أن يسلب الكلمة وصوت الحق، بل ويسلب سنوات العمر وأحلام الشباب خلف هذا الحصار الجائر.
وفي ذلك تتساءل أم صبري باكية: إلى متى سيظل أبناؤنا في هذا الجحيم، لا عمل ولا دراسة، ولا أحلام تتحقق، لماذا لا يتوحد العالم لينتصر لغزة، ضد الظلم الواقع على أهلها، والوجع المختنق في صدور شبابها؟!
لا آذان تسمع، ولا قلوب ترد بينما تعود الأم لتعدد مناقب ابنها بكل أنواع الحسرة وتقول: كان حنونا كبير القلب، معطاء كريما رغم العوز، وفي ليلته الأخيرة، سمعته يواسي زوجته ويعتذر منها بسبب شجار نشب بينهما قبل أيام، ولم يكن في بالي أنه سيغادر دون رجعه، وتضيف: خرج دون أن أعلم، سمعت أصدقاءه ينادون عليه من الأسفل، لم أكن أعرف أنه لن يعود.
وبينما يتردد والده في الحديث أمام كاميرات المصورين يستسلم في النهاية ويجلس على كرسيه كالنسر المنكسر بلا جناحين، وقد كان صبري جناحه الذي يحلق به، ويزفر هواء صدره ثم يقول: صبري هو ثالث الأبناء الستة، صاحب قلب كبير، محب لي ولأخوته، لا يشكو ألما، ولا يطلب بل كان له من اسمه نصيب، فهو جلد صبور في المحن وكنت أفهم أوجاعه من نظراته دون أن يشكو، وكان دائما يفكر فينا وفي زوجته وفي ابنه القادم الذي رحل دون أن يراه.
رحل صبري بعد محاولته أن يضع بصمة تشفي غليل أهل غزة، رحل وربما لن يعلم الكثيرون ما فعل، ولكن أمنية أمه التي رددتها على مسامعنا ظلت ترن في الأرجاء: رحل من ضيق الدنيا، الله يوسع عليه في الآخرة.