بغض النظر عن مدى دقة الإعلان عن التوصل لتهدئة جديدة بين المقاومة في قطاع غزة والكيان الصهيوني، فإن التصعيد الأخير كان يحمل في طياته طاقة كامنة لاندلاع مواجهة شاملة.
وفي حال ظلت الأسباب التي أفضت لهذا التصعيد قائمة، فإنها ستؤدي عاجلا أم آجلا لتلك المواجهة التي تماثل الحرب الإجرامية التي شنها الاحتلال على قطاع غزة في صيف 2014.
ومن الأهمية بمكان التأكيد هنا أن كلا من حماس والاحتلال يتجهان نحو المواجهة الشاملة على الرغم من أن كل منهما يرى أن مثل هذه المواجهة لا تخدم بالضرورة مصالحه في الوقت الحالي.
فنتنياهو يتعرض لضغوط كبيرة للرد على الطائرات الورقية والبالونات المشتعلة التي باتت تحرج قيادة الكيان الصهيوني.
ومما زاد الأمور تعقيدا حقيقة أن العقوبات الاقتصادية التي فرضتها تل أبيب مؤخرا ضد القطاع، لم تؤثر سلبا على وتيرة إرسال هذه الطائرات، مما أفضى إلى تفاقم الأضرار الناجمة عنها تحديدا بعد فرض هذه العقوبات.
وفي المقابل، فإن حركة حماس وبقية فصائل المقاومة العاملة في القطاع لن يكون بوسعها غض الطرف عن الهجمات التي تنفذها إسرائيل ردا على مناشط حراك العودة، وضمنها الطائرات الورقية، على اعتبار أن هذه الفصائل باتت تدرك أن الرد على الهجمات الإسرائيلية يعد متطلبا ضروريا لصيانة قواعد الاشتباك الحالية، والتي تقوم على الرد على عمليات القصف والغارات التي تنفذها إسرائيل.
وتعي فصائل المقاومة الفلسطينية أنه يتوجب عدم العودة إلى "الخطأ" الذي تمثل في عدم ردها على عمليات القصف والغارات التي نفذتها إسرائيل بعد انتهاء حرب 2014، وهو السلوك الذي أغرى تل أبيب باستهداف، وعلى نطاق واسع، بنى تحتية عسكرية ومرافق حساسة للمقاومة، تضمنها بنك الأهداف الذي أعدته إسرائيل على معلومات استخبارية.
وعلى الرغم من أن الغارات التي ينفذها جيش الاحتلال وردود فعل المقاومة عليها يمكن أن تفضي إلى اندلاع مواجهة شاملة، إلا أن كلا منهما يعي أن مثل هذه المواجهة ستسهم فقط في تدهور مكانته الاستراتيجية.
وتدرك القيادة في تل أبيب أن اندلاع مواجهة شاملة مع حماس سيمهد الطريق أمام عودة إسرائيل مجددا لاحتلال قطاع غزة، مع كل ما ينطوي عليه هذا التطور من تداعيات أمنية وسياسية واقتصادية بالغة الخطورة.
فمن أجل حسم المواجهة مع حماس، وعملا بما جاء في تقرير "مراقب الدولة" الذي حقق في مسار حرب غزة 2014 وأوصى بتصميم الجهد الحربي في أية مواجهة قادمة ضد القطاع بشكل يفضي إلى تقليص أمدها، فإن جيش الاحتلال سيكون مطالبا ليس فقط باستخدام قوات نيران هائلة لحسم المواجهة، بل أنه سيكون مجبرا على بدء المواجهة بمناورة برية تفضي إلى إعادة احتلال قطاع غزة بأكمله أو مدينة غزة على الأقل، مما يعني إسقاط حكم حركة حماس بشكل نهائي.
ونظرا لعدم وجود جهة ثالثة يمكن أن تتولى زمام الأمور في القطاع بعد إسقاط حكم حماس، فإن إسرائيل ستكون أمام خيارين، أحلاهما مر: فإما أن تنسحب مجددا من القطاع لتسود حالة من الفوضى داخل القطاع تفضي إلى تدهور الأوضاع الأمنية في جنوب إسرائيل، دون أن يكون في قطاع غزة عنوان سلطوي يتسنى لتل أبيب جباية أثمان منه.
وإما أن تتورط إسرائيل بالبقاء في قطاع غزة طويلا مما يعني تحملها الكلفة الاقتصادية لإدارة شؤون القطاع؛ ناهيك عن أن مثل هذا السيناريو سيفضي إلى حدوث مزيد ن التآكل على مكانة إسرائيل الدولية، إلى جانب تبعاته الأمنية والعسكرية، على اعتبار أن قوات الاحتلال ستتحول إلى أهداف مباشرة لعناصر المقاومة.
إلى جانب ذلك، فإن حالة انعدام اليقين على الجبهة الشمالية، سيما في أعقاب فشل زيارة نتنياهو الأخيرة إلى موسكو في التوصل لاتفاق مع الروس يتجاوز تسليم روسيا بحق إسرائيل في إملاء خطوطها الحمراء في سوريا، تزيد من مخاطر اندلاع مواجهة مع الإيرانيين وحزب الله، وهو ما يفاقم مخاطر المواجهة مع غزة.
وفيما يتعلق بالمقاومة في قطاع غزة، فأنه إلى جانب تحسبها للنتائج المترتبة لأي حرب جديدة على غزة، وضمنها الإضرار بالقوى البشرية للمقاومة وبناها التنظيمية وقواعدها، فإن اندلاع مواجهة شاملة يعني أيضا تصفية الرهانات التي عقدت على حراك مسيرات العودة، ودوره في تغيير بيئة الصراع. علاوة على أن اندلاع مواجهة شديدة سيقطع الطريق على الجهود الدولية والإقليمية الهادفة إلى تحسين الأوضاع في القطاع.
ويبقى السؤال الذي يطرح نفسه: هل تتغلب الحسابات الداخلية الإسرائيلية ذات الطابع الشعبوي وحرص المقاومة في غزة على تكريس قواعد الاشتباك الأخيرة على مخاوف الطرفين من تبعات أية مواجهة جديدة.