هل كان تخطيطًا ربانيَا أن يفتقد "عبادة" طفل صديقه الشهيد باحثًا عن أخباره صباح استشهاده! وهل كانت مصادفة أن تخبره "ليلى" بشوقها الكبير لأخيها الشهيد يومَ ذكراه العاشرة؟
لم تدُر هذه الأسئلة فقط في خلد العشرينية "ليلى الحية" ذات الست والعشرين عامًا، بل حامت في رؤوسنا أسئلة كثيرة بمجرد أن تطأ أقدامنا أعتاب حي الشجاعية شرق قطاع غزة للبحث عن حكايا الشهداء.
"حي الشجاعية.. قلعة المجاهدين".. لافتة علقت في مدخل حي الشجاعية.. ذاك المدخل شاهد على بطولات أبنائه داخله، ومنه خرجت حشود المشيعين لشهداء أبطال، تحدث عن شجاعتهم القاصي والداني.
من هنا رحل الشهداء.. وهنا رائحة الفقد تظهر جلية في صورة شهيد على جدار، أو في تاريخ خط على باب بيت، أو اسم شهيد على حائط مسجد لتبقى ذكراه خالدة!
ربما الحديث عن الشهيد "عبادة فروانة" مختلفًا.. بالتأكيد مختلف، تلحظ ذلك بمجرد بدء الحديث مع عائله، فأم تقاومُ دمعها كي تفوت على العدو فرصة رؤية دموعها وضعفها، وزوجة كبرت وهي تعاني الفقد وتعيش لحظات الوداع في هذه البلاد النازفة، وطفلتان لم يُكتب لهما فرصة "الإعجاب بأبيهما" كما كل الفتيات!
إن كان يحق لنا أن نضيف إلى جانب كلمة "الجلد" في معاجم العربية اسمًا فليكن "سامية فراونة"!
هي أمه.. تقاسمت معه ملامحه كما أحلامه منذ نعومة أظفاره، أخبرها بكل أمنياته وأخبرته دائمًا أنها تنسج له حلمه في دعاء وترسله للسماء فيجده يمطر!
كانت هي من بثت الصبر في قلوب من وفد إلى سرادق العزاء كي يواسيها، فكيف لأم لم ترَ ابنها وقت وداعه لأن صاروخًا شتت أشلاء جسده إلى قطع صغيرة، كيف لها أن تحكي عن حكايا ابنها بكل صلابة وجلد؟
"عبادة" كان مختلفًا أيضًا، زاهدًا بشكل زائد، جديًا أكثر من اللازم وضحوكًا، كان متعلقًا بزوجته وأمه وطفلتيه لكنه يحب الوطن أكثر!
نوفمبر عام 2016 كان مغايرًا كذلك.. حيث فيه وجد "عبادة" ضالته حين كان يبحث عن فتاة "من عائلة شهداء"، كي يرتبط بها فكانت "ليلى".
تلك الفتاة التي لم تتأقلم على فقد أحد من أحبتها حتى تفقد آخر، فشقيقها "إياد" كان رحيله عام "2008"، ووالدها وشقيقها الآخر قصفا بصواريخ الاحتلال أثناء جلوسهما أمام بيتهما ورحل ثمانية من عائلة "الحية" يومها.
"لماذا ليلى بالتحديد؟ ولم كل هذا الإصرار من عبادة عليها؟" كان سؤالًا لأم "عبادة" وقت خطبته، لترد جواب "عبادة": "أريدها من عائلة شهداء كي تربي أبنائي على حب الوطن، لأنها تعلم كيف الفقد وما بعده.. كي تصمد وقت وداعي شهيدًا".
"هل كانت ليلى كما جهزها عبادة ليوم استشهاده؟"، بالطبع لا.. تجيبنا "ليلى" والدمع لم يفارقها، فالقهر الذي سكن قلبها وقت وداعه لا يوصف.
وهي تعلم أيضًا أن ما ستعيشه طفلتاها شعرت به قبل ذلك، فهي تؤمن بـ" لا يشعر بك إلا من عاش ظرفك".
فهي تعلم كيف تكبر بنت الشهيد، تحتاج كتف أبيها.. تحتاجه سندًا، صديقًا، حاميًا.. "ستصفعهما آلام الغياب".. تدري "ليلى" لأنها جربت الفقد بكل أشكاله!
"أنس الغلبان" هو طفل الشهيد "بلال الغلبان"، كان صديق "عبادة"، رحل عام 2014 تاركًا خلفه "أنس" الذي كان عبادة يرى فيه ملامح صديقه وذكرياته.. كما جمال القلب الذي ينعكس على الملامح.
كان "عبادة" لسنوات يلاعب "أنس"، يحمله على أكتافه، ويشعره كأن أباه حاضر معه في طفولته، كان يرى في رعايته إخلاصًا لميثاق الصداقة مع والده.
حزن "عبادة" كثيرًا كما قالت "ليلى" لأن طفل الشهيد "بلال" انتقل إلى مكان سكن جديد، تحكي لـ"الرسالة": "شيء غريب أن عبادة يوم استشهاده سأل عن أنس، عن آخر أخباره، عن تفاصيل حياته الحالية"، وراحت تتساءل: "هل كان يشعر بقرب لقائه مع بلال وأراد أن يطمئنه على طفله!؟".
كل الأحلام التي بنتها "ليلى" مع شريك عمرها "عبادة" رحلت يوم أن قرر الاحتلال قصف مرصد للمقاومة في الشجاعية بصواريخ غادرة أنهت حياة "عبادة" وحولت جسده إلى أشلاء!