قائد الطوفان قائد الطوفان

تحت الأرض

رشا فرحات

قررت النزول إلى النفق، قراري لا رجعة فيه، لا أقوى على بعدها أكثر من ذلك، يجب أن أراها، يجب أن أتلمس ملامحها، لا تكفي تلك الأخبار التي تصلني من هنا أو هناك، أشواقي محبوسة منذ سنين، شكوى ما فعلته الأيام بي مكبوتة تريد أن تخرج إليها، قصص كثيرة تتجمع لتحكى إليها ..لا تحكى إلا إليها..

قدماي متعبتان جدا، بدأت الدماء بالنزيف غزيرة منذ بدأت السباحة في هذا النفق، في عتمة المكان المخيف المرعب، أتفقد أبنائي الزاحفين خلفي والمتسائلين بوجل، ولا أجد ردا على أسئلتهم المتواصلة،" ماما وين ستو، وقتيش بدنا نشوفها" وأنا أصبرهم " اقتربنا من المخرج، لا تخافوا، سنرى وجه ستو خلال دقائق.

 رفيقنا في هذه العتمة دليلنا في هذا المكان الموحش، المح ملامحه الوجسة الخائفة، وهو يهدئ من روعي ويمد يده ليساعد أطفالي، وأنا أناجي نفسي، وأواسيها..طويل هذا الطريق، أطول طريق سلكته في حياتي، مخيف مرعب موحش، لا يؤنس وحشته سوى تلك الأشواق إلى وجه أمي، مكبوتة في صدري منذ خمس سنوات، بدون أوراق ولا هوية دخلت إلى هنا، فأنا لا احمل ورقة للدخول، نازحة مثل أمي التي تنتظر على الطرف الأخر، والتي دخلت إلى غزة نازحة ولم تستطع الخروج، تلك التي اسمع صدى دعواتها يرن في أذني كالحلم البعيد، يصبرني على هذه الآلام، وعلى وجع قدماي المتقرحة من جراء الزحف.

 اتسخت ملابسي، خائفة على أبنائي، اغبرت وجوههم من كمية التراب التي تثير غبارها في وجوهنا كلما خطت قدمانا زاحفة باتجاه الضوء، اختناق يبدأ عصفه بأنفاسنا الموجوعة المحبوسة داخل صدورنا، لا ضوء، ولا رفيق، ولا أنيس، هو حلم وحيد يلف بنا من داخل النفق.  أتذكر رجائي للضابط المصري على معبر رفح، والذي لم يسمع صوت أشواقي وأنفاسي المتلاحقة، وتوسلاتي ودموعي.

 أريد فقط رؤية أمي لمرة واحدة، لنظرة واحدة، أتلمس وجهها في مخيلتي فتزداد سرعتي في الزحف، وتجذف يداي أمواج التراب المتلاحقة التي تخنقني دقيقة بعد الأخرى، فأسرع وأسرع، وأعود لذكرياتي في الخلف، معبر مغلق الأبواب، وحياة ليس لها طعم بدون أشواق أمي، وأمل مفقود برؤيتها، وحلول على طاولة المفاوضات، تبحث عن حل لي ولأبنائي ولأخوتي ولمئات الأشواق المنتظرة النازحة المتروكة في الخلف، لا اقوي على الانتظار أكثر، فالزمن يجري سريعا ولا بد من مخاطرة.

حذرني زوجي، حذرني كل من تركتهم خلفي، ولأنهم لم يعدوا الأشواق كما أعدها، ولم يحصوا دقائق البعد كما أحصيتها، تركت كلماتهم خلفي وقررت النزول إلى تحت الأرض، ذلك الطريق الوحيد المؤدي إلى أمي ،  فأمي على الطرف الأخر، وجه الشمس والشوق والحنين، صدر أرضعني ويد حملتني، ودموع بكت على بعدي سنين وسنين ، أفلا تستحق روحها الطاهرة هذه المخاطرة.

لم اعد أقوى على التجديف، فالرمال ثقيلة، وأوجاع قدماي في ازدياد، والضوء الخافت الصادر عن ذلك الكشاف الصغير الذي تحمله يدا ذلك الدليل الذي مافتفيء يهدئ من روعنا بكلماته الفلسطينية الجميلة.

أخيرا..أنه ضوء يلمع من بعيد، ولادة جديدة لم اشعر بها قبل اليوم، فرحة غامرة تدق في صدري فتزيد من ضربات قلبي الممتلئ بالهموم، أخيرا ستخرج تلك الأوجاع، أخيرا ستمتلئ أنفاسي بعطرها الجميل، أخيرا أرى فتحة الأمل الوحيد الباقي، ضوء الشمس، صوت الدليل، بكاء أبنائي، أوجاع قدماي المتقرحة النازفة.. لم اعد أشعر بشيء، فرحة واحدة باتت تتحدث ألان ..صرخة ألم صدرت عني فجأة حينما خرجت من فتحة النفق ..راكضة نحوها بصرخات ذلك الطفل الصغير الساكن بداخلي ... أمي..أمي..

البث المباشر