عريب الرنتاوي
أيام قليلة باتت تفصلنا عن أحدث جولة من "المفاوضات المباشرة" المقرر لها أن تمتد لعام كامل.
المفاوضات مطلوبة بذاتها، لا لنتائجها ومآلاتها، لا أحد لديه أوهام حول ما يمكن أن تسفر عنه، حتى أكثر الناس حماساً لـ"المفاوضات حياة"، لا يخفون تشاؤمهم حيال فرص التوصل لاتفاق حول قضايا الوضع النهائي، فليس في "إسرائيل" حكومة راغبة في إنهاء الاحتلال، وليس هناك حكومة قادرة على فعل ذلك حتى بفرض توفر الرغبة، العقبة في "إسرائيل" التي تنزاح نحو اليمين، فالسلطة جاهزة للحل ومهيأة لمزيد من التنازلات المؤلمة، غير آبهة برأي عام أو فصائل أو مقاومة، هي ذاهبة على طريق ذي اتجاه واحد، ولم تعد تُستفز أو تغضب جراء نشر صور التنسيق الأمني أو تسريب الأخبار عن حروبها على الآذان ومكبرات المساجد والأئمة والجمعيات والمجتمع المدني، هي قررت الذهاب في طريقها حتى نهايته.
هي "معركة العلاقات العامة" التي تدفع المستوى السياسي الفلسطيني والإسرائيلي سواء بسواء لـ"مسايرة" الوسطاء والوساطات، وإظهار الرغبة والعزم على السير على هذا الطريق، لا أحد يريد أن يتحمّل مسؤولية الفشل أو يحمل على أكتافه وزر التعثر، الكل يدفع باتجاه إلقاء اللائمة والمسؤولية على الآخر، الأمر الذي جعل استحقاق الثاني من أيلول - سبتمبر المقبل أمراً ممكناً.
من الآن، بدأت "تسريبات ما بعد فشل المفاوضات" تنتشر في الأوساط السياسية والإعلامية، من الآن، هناك تمهيد أولي يجري العمل عليه لـ"السيناريو الوحيد الواقعي" الذي سبق وأن تناولناه في مناسبات عدة، وفي هذه الزاوية بالذات، "سيناريو الحلول الأحادية المتفق حولها أو المتواطأ عليها"، وهو السيناريو الذي سنعيد التذكير بأبرز عناصره.
ستنتهي السنة المقبلة، سنة المفاوضات المباشرة من دون تقدم جدي يذكر (اختراق)، لن تجسّر الفجوة بين المتفاوضين حول قضايا الحدود والقدس والاستيطان (قديمه وجديده) والأمن والسيادة والمياه واللاجئين إلى غير ما هنالك، الأمر الذي سيدفع الفلسطينيين والإسرائيليين إلى اتخاذ سلسلة متبادلة من الخطوات الأحادية:
الفلسطينيون سيعلنون أن مؤسسات الدولة قد اكتمل بناؤها (وفقاً لخطة فيّاض وحكومة تصريف الأعمال)، قد يعلنون عن الدولة أو يذهبون إلى مجلس الأمن للإعلان عنها، "إسرائيل" سترد بغضب (من دون تهوّر)، ستضم الكتل الاستيطانية الكبرى وكل ما يمكن أن تُعدّه حيوياً لأمنها ومصالحها، التوتر سيتصاعد، السلطة ستحافظ على الأمن والاستقرار والتنسيق الأمني (هذا شرط لازم ومتطلب مسبق لنجاح هذا السيناريو أو أي سيناريو آخر، هذا ثابت من الثوابت الفلسطينية المستجدة)، المجتمع الدولي سيتدخل داعيا لضبط النفس ووقف الخطوات الأحادية، سيعترف بالدولة الفلسطينية، وسيدعو لتفاوض بين دولتين حول القضايا موضع النزاع، ستدخل القضية الفلسطينية في "سيناريو كشمير"، مفاوضات بين دولتين "مستقلتين وسيَدتين" قد تمتد لستين عاماً آخر.
ميزة هذا السيناريو أنه سيمكن كل طرف من إدعاء "النصر": السلطة حظيت على دولة معترف بها من دون أن تعترف بيهودية الدولة أو تقر بإسقاط حق العودة أو ضم القدس والمستوطنات، وسيكون بمقدورها الزعم أنها حصلت على دولة رغم أنف الاحتلال، في المقابل، سيقول نتنياهو أنه احتفظ بالعاصمة الأبدية الموحدة ولم يفكك المستوطنات الكبرى ولم يتخل عن أي من أطماع "إسرائيل" وأحلامها التوسعية السوداء، بما في ذلك ستظل يداه طليقتان لمواجهة أي "تهديد أمني" لاحق.
في الطريق إلى هذا السيناريو، وربما بعده، ستخلي "إسرائيل" مناطق الكثافة السكانية وفق برنامج زمني مرتبط بحسابات الأمن ومعاييرها، ستتمكن السلطة من بسط نفوذها على مناطق وطرق أوسع إن هي أثبتت أنها قادرة على حفظ أمن الاحتلال والاستيطان، ولأن السلطة تدرك أن لا معنى للدولة من دون هذا الامتداد والانتشار، فهي ستتمسك بأسنانها وأظافرها بخططها الأمنية، بل وستبدو أكثر شراسة في الانقضاض على خصومها ومجادليها، من حماس والجهاد وربما تطاول قوى وفصائل ظلت حليفة حتى ما قبل المفاوضات المباشرة.
تحت جنح المفاوضات المباشرة، سيجري تمهيد الطريق للوصول إلى هذا "الحل غير التوافقي" الذي ترتسم معه الحدود والخرائط الانتقالية بعيدة المدى، فتكون النتيجة الختامية للمفاوضات غير المباشرة، قيام دولة تجسد مشروع سلام فيّاض المؤسساتي وسلام نتنياهو الاقتصادي وسلام شارون الانتقالي (بعيد المدى) والدولة ذات الحدود المؤقتة وكل ما مرّ علينا وطرأ على مسامعنا من مشاريع وسيناريوهات، فشلت جميعها لأنه أريد لها أن تترجم بصورة توافقية، وفي حفل بهيج في باحة البيت الأبيض، اليوم تتجه الأنظار إلى بديل أكثر تواضعا وواقعية، إلى سيناريو "الأحادية المتبادلة"، ومن قرأ التسريبات عن عروض نتنياهو السخيّة المنتظرة، والتي لا يريد مقابلها شيئا سوى الاستمرار في حفظ الأمن والاستقرار، يدرك تمام الإدراك أننا سائرون على هذا الطريق.
وأن كل ما يجري الإعداد له ليس سوى ستار كثيف من الدخان لا شيء خلفه
نقلاً عن صحيفة الدستور الأردنية